مقالات

القصيدة العربية المعاصرة في كتاب جديد  للشاعر و الناقد المصري الكبير محمود حسن

 

حاتم عبدالهادي السيد

يعد كتاب حَطّموا جُمود الشعر للشاعر والناقد  محمود حسن عبدالتواب واحدًا من أهم الكتب التي تفتح النقاش حول القصيدة العربية المعاصرة، وما يمكن أن يضيفه الأدباء المعاصرون لرفد القصيدة العربية العمودية الخليلية برؤي أكثر حداثة، في الشكل والمضمون، وصياغة موضوعات القصيدة التي تناظر حاجيات العصر، وتتسق مع تحولات القصيدة العربية بعد حركة الإحياء والبعث منذ البارودي ومرورًا بحافظ ابراهيم وأحمد شوقي، والشعراء الشوام والعراقيين المجددين، وهذا الكتاب يقدم الطرح للفكرة العامة التي بدأها لويس عوض حين نادي بتجديد الشعر العربي وتحطيم جمود الشعر، ولكن محمود حسن اتخذ طريقًا مغايرة، ولم يكتف بالرؤي النظرية، بل قدم الأنموذج التطبيقي للتدليل إلي فكرته عبر طرح رؤيته في أن النقد ابداع موازٍ، بغية اسقاط النص علي أرض الواقع، وهو ما نادي به نظرية علاقة الأدب بالمجتمع، وعدم انفصال الشعراء عن أرض الواقع، فالإبداع مرآة الواقع، وإذا حاد المبدع عن واقعه، سقط النص، أو انتقل إلي ما لا يمكن أن نطلق عليه مسمى القصيدة .

النقد إبداع موازٍ ” مُحاولة لإسقاط النص في أرض الواقع : ”

لعله من المفيد أن نعرف أن الناقد والشاعر / محمود حسن عبدالتواب هو من أسس لمقولة : ” ان النقد ابداع موازٍ”، وعقد العديد من المؤتمرات لتأصيل فكرته، ولعله استفاد من كثير من الطروحات ليقدم لنا رؤيته التي تتمحور في أن الشعر مرتبط بالنقد، ولصيق به، وأن النقد هو ابداع موازٍ ، ولكن بشروط حددها لنا، ودلل إلي رؤيويته بطرح مغاير، فالنقاد والمثقفون العرب ينادون بطرح نظرية عربية نقدية، لكنه ذهب إلي ما هو أوسع في طرح نظرية عالمية للأدب، تحوي كل الطروحات، وليأخذ منها كل ناقد بما يتناسب مع مجتمعه، وبما يتفق مع ثقافته وسعة اطلاعه، وابداعيته كناقد، لذا قدم لنا – منذ البداية – رؤيته حول كسر جمود الشعر وربطه بالحركة النقدية، يقول : “إن أيّةُ محاولة للحديث عن كسرِ جمود الشعرـ بعيدًا عن حركة نقديةٍ موازيةٍ ـ هي بمثابةِ الحرثِ في البحر؛ ذلكَ أنَّ الحركة النقدية الصحيحة هي الترموتور الذي يمكن به قياس مدى التطور، أو التحركِ في مستوى الإبداع عامةً، والشعر خاصةً، أو حسب ما يرى “توماس ستيرنز إليوت” من أن: “النقد الصحيح هو الذي يتصدى لعملية الخلق في الإنتاج الفني، فيوضح ماهيتها، ويفسر لنا قيمتها، ثم يتعرض للغايات التي من أجلها وُجد هذا الإنتاج “على ألا يشتطّ النقدة بعيدًا عن عدة أمور منها :

أولا: معطيات النص نفسه وقواعده وأُسسه وجمالياته.

ثانيا: لغة النص وبيئته وعصره.

ثالثًا: الأدوات النقدية الصالحة للتعامل مع النص.

رابعًا: البعد الإنساني المشترك.

هذا ويأتي الكتاب في مقدمة وخمسة فصول وخاتمة.

والناقد هنا يتطرق إلي الحديث عن كثير من القضايا الجوهرية التي تخص عملية الخلق والابتكار للمنتوج الشعري، ووظيفة الناقد والمبدع، والنقد المواز الذي ربطه بالنص الأدبي، كما أنه يطرح رؤية عميد الادب العربي طه حسين وعلاقة ذلك بمنهجية الشك الديكارتي، ويعرض لكثير من الرؤي للنقاد بداية بالناقد محمد مندور، لويس عوض، ومرورًا بإليوت ومحمد عبدالمطلب وكثير من النقاد المعاصرين، ثم نراه في الفصل الثاني يطرح رؤيته حول أشكال الكتابة الشعرية ،والتي ربطها بثقافة الناقد، كما حصر لنا الأشكال الشعرية – بحسب رؤيته – في ثلاثة أشكال:

الطرد المتوالي: وفي هذا الشكل تتربع قصيدة المسابقات، أو ما يمكن أن نسميه قصائدَ المؤتمراتِ والمحافلِ والمناسبات الجماهيريةِ، وغيرها .

الطرد الانتقائي: وفيه يعتمد الشاعرُ تقسيم نصِّه إلى قطاعاتٍ، وربما إلى جُزِرٍ متصلةٍ بخيط دقيق، أو بلا خيط مرئيٍّ، وربما منفصلةٍ، وهو تمامًا مثل هذا الصاعد على سُلّمٍ غيرِ ثابتٍ، يحتاج مثلا لعشرِ قطعٍ من الأحجار، فيحملها على ظهره، وكلما ارتفع لأعلى يكون قد استهلك قطعة فقطعة وهكذا حتى يضع آخر قطعةٍ من على ظهره، وهو ينتقي لكل خطوة قطعة مناسبة قد تختلف عن غيرها، والمحصلة هي الوصول السليم والآمن غالبًا.

وأما الشكل الثالث: فيسميه “الطردُ المتوازي”: وفيه يعتمد الشاعر أدواتٍ من رحلته، لا يأتي معه بعصا، ولا سلَّمٍ، ولا قطعٍ حجرية يصعدُ بها أو عليها، ولا يحمل معه زاده، فهو يبدأ رحلته باحثًا عن شيءٍ، أو قاصدًا الوصولَ إلى نقطةٍ ما، فإن أحس بالعطشِ ووجد بئرًا شرب، وإلّا نوى الصيام، وإن أحس بالبرد ووجد حطبًا وحجرين يقدح بهما النار فعل.

ولقد انتقل بنا من الرؤية النظرية إلي التطبيق مناقشًا موضوعة النظم والشعر من خلال التطبيق علي نماذج الشعر لحسن طلب وأحمد عبدالمعطي حجازي والشهاوي، بل تعدي ذلك للحديث عن الأشكال الشعرية بدءا بالقصيدة الخليلية العمودية ومرورًا بالشعر التفعيلي، بل وبقصيدة النثر، فالشاعر منفتح علي كافة الأشكال الشعرية، وإن كانت تطربه – كما يقول – القصيدة المقفاة العمودية.

كما ينتقل بنا الشاعر عبر تطوافه ليتعرض لآراء العقاد وطه حسين عن الشعر، بل انه يضيف إليهما، ويتفق معهما، ويجاوزهما إلي رؤيوية خاصة به كذلك ، كما يأتي بالرأي مصحوبًا بالفكرة والدليل والبرهان ، ولا يترك الأمر علي براحه، بل يجتهد ليقدم لنا العديد من الرؤى التي يمكن أن تفتح الكثير من الأسئلة نحو هوية القصيدة الكلاسيكية ومدي خطورتها كذلك علي الشعر، إذا لم تتحل برؤى تناظر العصر وتتساير وتتناظر معه في محاولة منه لتقديم الجديد، وتحطيم جمود الشعر، لا عموده بحسب رؤية لويس عوض ، وإن كان محمود حسن قد أضاف تطبيقات لرؤاه، وقدم لكثير من الشعراء كصلاح عبدالصبور وحجازي وعزت الطيري وغيرهم كنماذج لافته يمكن القياس عليها، كما قدم لشوقي وامارة الشعر ، وغير ذلك.

ولعل من الفصول الجميلة التي يجب الاشارة اليها في هذا الكتاب الجميل هو فصل : اللغة العربية ابداعًا وهوية، وكيف يمكن استدعاء التراث العربي كنص مواز، يقدم الأنموذج ضد الحداثة وما بعد الحداثة، او التغريب في اللغة والشعرية العربية، وكيف حافظت اللغة العربية علي الهوية والتراث وأَصَّلَت للوجود العربي كمعطي فاعل في سفر الأدب العالمي المعاصر كذلك .

كما يتعرض الكتاب للنثر وقصيدة النثر، من خلال ابداعات الشاعر د. عبدالحكم العلامي، حسن طلب ، ثم نراه يعود إلى أحمد حجازي والشهاوي ،ويفيض في علاقة الشهاوي بالشعر الصوفي، أو كما يصفه بالسهروردي الجديد، أو حلاج العصر ، ثم يقدم شذرات من شعر صلاح عبدالصبور، نجيب سرور، ويقيني أن هذا الكتاب كان سيؤتي أكله، لو اكتفي بنماذج من الشعراء السابقين، وطرح لكثير من الأسماء الشعرية المصرية والعربية التي طورت من جمود الشعر العربي خاصة الشوام والعراقيين، بل والكثير من شعراء إفريقيا كذلك ، ولكنه – قدم بقدر ما يطيق – النماذج الدالة، وإن كنا نتطلع أن يكمل ذلك في طبعة مزيدة، ليضيف النماذج التي تؤكد وتدلل بصدق أكثر علي رؤيته التي نحترمها، والتي تعيد لنا مناظرات شعراء جماعة الديوان، وأبوللو، وشعراء المهجر، ومعارك العقاد مع المازني، وطه حسين وشوقي، وحافظ ابراهيم، وكثير من القضايا التي أفادت النقد العربي آنذاك .

إلا أن محمود حسن يطرح جميع الرؤي ، ويؤمن بالتعددية والتجاور في الأدب والنقد، يقول : هذا وسنظل نقول؛ إنَّ تصارع الأشكال الأدبية، وتجاورها وتزاوجها؛ هو الطريق الوحيد إلى التطور، والبقاء والجودة، وأنه كلما اتسعت ثقافة الناقد وأفقه المعرفي والإنساني؛ ازاد تصالحه مع جميع الأشكال الأدبية”.

وفي الخاتمة اللطيفة ينهي محمود حسن كتابه المثير للقضايا والمناقشات والرؤي بقوله:

” حطِّموا عمود الشعر، لقد مات الشعر العربي؛ مات عام 1933م، مات بموت أحمد شوقي، مات ميتة اﻷبد مات..” مندفعًا أسقط الدكتور لويس عوض هذه الكلمات كأنها قذائف مدفعٍ، ليعلن في غضب شديد، وتحدٍّ موت الشعر العربي بموت أحمد شوقي. ومع افتراض حسن النية، فقد ألقى لويس عوض حجرًا في الماء الراكد، يتفق وما نقوله من “أن بعض الشعراء الخلِيليِّنَ هم أشدُّ خطرًا على القصيدة الخليلية من القائلين بموتها؛ ذلك أنهم جمدوا، وقلَّدوا، وتقوقعوا داخلها، من دون إسقاطٍ للنص في أرضع الواقع”. لكن لنا الآن أن نتساءل: ماذا لو قال لويس عوض: “حطموا جُمود الشعر، ولم يَقُلْ: حطموا عَمود الشعر”؟ .

وأقول : لنا ان نختلف مع لويس عوض في كلامه ، بل نضيف كذلك بأن الشعر لم يعدم وجود شعراء كثيرين مجددين ناظروا شوقي وكانوا أكثر تجديدًا ورهافة كذلك، وإلا سنمحي كل جهود جماعة أبوللو، وجماعة الديوان ،وشعراء المهجر وكل الحركات الشعرية التحررية في كل الأقطار العربية، بل والإفريقية كذلك، وهو ما انتصر له محمود حسن ونحن معه في أن الشعر يحتاج إلي كسر جموده داخل اطار الوزن والقافية، ودون التحرر منهما، بل تجديد جوهر الشعرية العربية في القصيدة المعاصرة، وتلك – لعمري – غائية وجوهر هذا الكتاب البديع ، الذي صاغه بهدوء شديد، ودون صخب، وقدم النظرية مصحوبة بالدليل والأنموذج التطبيقي، وهنا – كما أري – تكمن أهمية هذا الكتاب البديع الرائد ، والجديد في مضامينياته، كذلك .

سيظل كتاب محمود حسن يطرح الأسئلة حول تحولات القصيدة العربية المعاصرة، ويحاول كسر جمود الشعر، وتقديم نص عربي موازٍ، أو قصيدة معاصرة تحمل الثوابت التراثية، وتنطلق مع المعطي المجتمعي العالمي والكوني لتقديم قصيدة ما بعد حداثية، بنكهة عربية جديدة، وبثوب أكثر رحابة وتمايزًا، شكل يجمع الاصالة والمعاصرة، ويستشرف للقصيدة العربية المعاصرة مكانًا مغايرًا ومساوقًا، ومناظرًا للشعريات العالمية الكبرى، عبر الكون والعالم والحياة.

.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى