ثقافة و فن

اعترافات المرأة العربية في رواية هدى بركات

اعترافات المرأة العربية في رواية هدى بركات

كتب : حاتم عبدالهادي السيد :
تجيء صورة المرأة العربية أكثر تأثرًا غي رواية الكاتبة اللبنانية  هدى بركات الحائزة جائزة البوكر العربية؛
حيث اعترافات المرأة التى قست عليها أمها ، فقتلتها ، كما قتل السارد المرأة العجوز التى آوته ، وتقول- مبررة مثله ،على طريقة حبيبها، كذلك – هى ارادة القدر الالهية ، وذلك الرجل . أى انها حكايات ممتدة ترويها فى شكل رسائل ،لتحكى عن عالمها ، عالمنا ، مذكرات امرأة قست عليها الأيام ، ورجل عاند الدنيا فعاندته الأيام ، أى كلاهما فى الحاليين متشابهان فى الظلم والمرار والوحدة والفقد ، فى التشرد والعيش على الحافة فى شوارع العالم ،والطرقات ، يتوزعهم الخوف والمرض ، ويتدثران بالحب ،بالجسد ، ليشعران بدفء الحياة . حتى ابنتها التى زوجتها أمها رغماً عنها ، لعربى من أجل المال وعاشت مثلها تخدم ، وكأن سلسلة الهزائم وتكرار التجارب ، تمتد الى الأبناء كذلك ، نتيجة لجشع الأم ، وحبها للمال مع عدم اعتبار لأمومة ، أو عاطفة ، فقد باعتها هى من قبل، وتركتها فى عراء العالم ،وحيدة مريضة منهكة ، يتجاذبها الذئاب ،الذين يجيدون نهش الأجساد الهزيلة الضائعة ، الضالة ،والفقيرة كذلك .
ثم تتوالى الرسائل الى الأب، وكأنه هنا يتذكر لا يرسل رسائل ، فحسب – ، ذلك الابن الذى كان يتحاشى الكلام معه خوفاً ورهبة ، الا انه هنا جاهر بالكلام ، دون خوف ، أو رادع ، لأنه هو الذى ترك له هذه المساحة الخالية ، تركها ولم يسأل عنه ،وكان يتمنى – كما يذكر – أن يتدفأ فى روح والده ،ويحكى له ، كالشباب ،عما يؤرقه ، لكن هذا لم يحدث قط ، فقد طرده الوالد من المنزل بسبب سيجارة حشيش ،فكان أن عاش المرار ، هو يعاتبه ، يكتب اليه ، يستدعيه ، يتذكره ، يريد أن يتطهر ، ويحنّ الى حضنه الذى فقده منذ أن غادر البيت الى الأبد .
انها رسائل الحزن ، تنحو الى الحنان ، تريد الدفء ، التسامح ، العفو ، الشعور بالندم ، الانتقام ، بث الشكوى والأحزان مما لاقاه / لاقته / معاً ، من أهوال الحياة وشظفها وعنتها ، ومن الغربة والترحال عبر شوارع العالم ، ونواصى الحياة القلقة المفزعة .
انها رواية الذات التى تعرى الجسد والروح ،لتطلعنا الى صورتين تشابهتين مختلفتين لحياة ولد وفتاة ، حواء وآدم ومسيرتهما الكونية عبر الحياة ، وما فعل بهما الشيطان ، ونزوعات النفس ، والأهوال ، الا أن التوق للحب ، للتطهر ، للصراخ ، بأنهما لم يقصدا ايذاء أحد ، وأن ما فعلوه كان خطايا غير مقصودة ، أو أخطاء وضعتها الأقدار فى طريقهما ، فسارا فى طريق الاختبار المرير عبر الكون والعالم والحياة .
وقد قسمت الرواية الى أقسام : مقدمة تثل العتبة النصية للولوج الى عالم الرواية عبر الفتاة والفتى ، القسم الأول : خلف النافذة ، والذى يمثل ثنائيات الصوت السردى ، الذكورى ، الأنثوى ، القسم الثانى : فى المطار : والذى يمدّد مسرودية الأحداث وتشابكها عبر الرسائل الى : الأب والأخ ،الأم ، ثم نراها تنهى روايتها بالخاتمة : ” موت البوسطجى ” ، وكأنها تريد أن توهمنا بأنها رسائل حقيقية حملها البوسطجى ،عبر بريد الليل الى من يطلبها – فيما بعد – من أصحابها ، بعد أن شردتهم الحرب ، وهدمت منازلهم ، وهوياتهم ، وكأنها رسائل مؤجلة ، لم تصل بعد الى أصحابها ، فهى رسائل السرد ، البوح الذاتى / ذاتها / ذاته / المجهول / الراوى الغريب التائه مع محبوبته التى غابت عنه كذلك ، كما غاب والده / والدتها أخوها / الوطن ،الحياة التى تنتظرهما فى الخارج لترد على رسائلهما المفجعة ، وربما السعيدة أحياناً !! .
انها تروى حياتنا ، واقعنا ،عبر روايتها ، تعكس كل ما يعترينا ، فلا القاتل قاتلاً ، ولا المومس عاهرة ، بل هى اسقاطات تحيلنا الكاتبة اليها لنرى الواقع عبرالرسائل ، السيرة الذاتية ، البوح النفسى ، وكانت الاستفاقة من هذا السرد على صوت ساعى البريد ، وداعش ،عبر المكان ، داعش- التى أقحمتها فى نهاية الأ حداث ، وهو اقحام غيرمبرر ، ولكنها اشارية الى الآنى / الزمنية ، الواقع الآن ، أى أنها تريد أن تخبرنا بانها رسائل الوقت الذى نحياه ، الآن – انها الرسائل التى تتقاطع مع عالمنا ، والتى تستعين بنا ، للنظر بشفقة الى هؤلاء المهجّريين ، المنفيّين فى الغربة ، المنكسرين عبر ذواتهم المأزومة ، والغرباء داخل أوطانهم ، وذواتهم ، يرفلون فى الظلم ، ويتجرعون كأس الهزائم المتكررة ،والطغيان ،والحرمان ، فى عالم طغت فيه المادة والخوف الذى جسّدته جماعة ” داعش ” ، كرمزية اشارية ، مثيولوجية ، للظلم والوحشية عبر عالمنا الذى افتقد الى الأمن ،وساد فيه القتل والضياع والتشرد ، عبر ردهات الواقع المرير ، والحياة التى تأخذنا الى دروب لم نفكر يوماً أن نسلكها ، لكن حرص ساعى البريد على تلك الخطابات جعلته يفهرسها ، فلربما سئل عليها أحدهم ، يوماً ما ، بعد أن غيبت الحرب العناوين ،وتهدمت البيوت ، وشاهت المعالم ، فلم نعد ندرى عن الأماكن والأوطان شيئاً ، فهى الغربة فى المكان ، غربة الذات عبر الغرفة ، عبر الوطن ، والكون، والعالم ، والحياة .
ان رواية : بريد الليل ، لهدى بركات تعكس الذات عبر منافى العالم ، وتعكس سيرة العالم داخل الذات ، تحكى من الغرفة أحزان المجتمع ، وتتأمل عبر التطواف ممسيرة الذات المأزومة عبر هذا العالم المتد ، وهى رواية ذاتية ، سيرة ، بوح ، افضاء روحى ، جمالى ، لغوى ، للذات الكونية ، الميتافيزيقية عبر الواقع السيميائى / التخييلى/ الحقيقى م الحالم ، والمتشابك والممتد أيضاً .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى