أخبارتقارير و تحقيقات

شعبان الشامي… القاضي الذي جمع بين الحسم والحنوّ في محراب العدالة

 

 

 

 

رحل المستشار شعبان الشامي، أحد أبرز وجوه القضاء المصري، بعدما خلّف وراءه سيرة مهنية حافلة ومحطات قضائية شكلت جزءًا من الذاكرة الوطنية. لم يكن مجرد قاضٍ ينطق بالأحكام من على المنصة، بل شخصية أثرت في مسار العدالة لعقود، بجمعه بين الحزم القضائي وحسّ إنساني لم تغفله صرامة القوانين. بحنكته وهدوئه، أدار بعضًا من أكثر القضايا حساسية في تاريخ مصر الحديث، تاركًا أثرًا لا يُمحى في سجل القضاء.

 

فارق المستشار الشامي الحياة أمس الأحد، بعد صراع طويل مع المرض، منهياً فصلًا ثريًا من فصول القضاء المصري، تاركًا خلفه تراثًا قانونيًا يستدعي التأمل، وأرشيفًا من القضايا التي شكّلت ملامح وعي أجيال كاملة من القانونيين، بل وحتى من المواطنين العاديين الذين تابعوا تلك المحاكمات التاريخية عبر الشاشات.

من منصة التحقيق إلى قمة القضاء

وُلد شعبان عبدالرحمن محمد الشامي على ضفاف نهر العدالة، حيث درس الحقوق في جامعة عين شمس، وتخرّج عام 1975. لم يتأخر في الالتحاق بسلك النيابة العامة، فبدأ مشواره في العام التالي مباشرة، كمعاون نيابة. لكنّ ملامح طريقه لم تكن عادية. من موقعه الأول، أبدى حماسة نادرة ودقة في التعامل مع الملفات، وهو ما دفع به سريعًا إلى مناصب أكثر مسؤولية: من رئيس نيابة، إلى قاضٍ في المحاكم الابتدائية، ثم مستشارًا في محاكم الاستئناف، قبل أن يستقر به المقام منذ 2002 قاضيًا بمحاكم الجنايات، حيث بلغ ذروة حضوره المهني والقانوني.

عينٌ على الشارع… منذ انتفاضة الخبز

لم يكن الشامي يومًا قاضيًا بعيدًا عن هموم الشارع المصري. في يناير 1977، حين اشتعلت البلاد احتجاجًا على ارتفاع الأسعار، أُسندت إليه واحدة من أولى وأصعب المهام في مسيرته: التحقيق في أحداث «انتفاضة الخبز»، التي وصفها الرئيس الراحل أنور السادات آنذاك بـ«ثورة الحرامية». في تلك الليالي القلقة، جلس الشامي إلى المتظاهرين، يستمع إلى أقوالهم، يوثّق غضبهم، ويضع أولى لبنات شخصيته القانونية في قلب واقع مشتعل، لا في رفوف القوانين فقط.

ولم يلبث أن واجه اختبارًا جديدًا في عام 1981، حين اندلعت الفتنة الطائفية في حي الزاوية الحمراء، تلتها حادثة استهداف كنيسة «مسرة» في شبرا بقنبلة يدوية أُلقيت على المصلّين، وهي واحدة من أخطر حلقات التوتر الطائفي في البلاد آنذاك. لم يتوقف دوره عند التحقيق في تلك الحوادث، بل توجّه إلى الفيوم، حيث تابع بنفسه تطورات العنف في مركز شرطة سنورس. لم تكن تلك محض قضايا جنائية، بل كانت ملفات مجتمعية متفجرة، تتطلب حسًّا وطنيًا إلى جانب القانوني، وهو ما أظهره الشامي بامتياز.

مبتكر في قاعات العدالة

في مطلع التسعينيات، وتحديدًا عام 1994، أثبت الشامي أنّه ليس حبيس الإجراءات التقليدية. ففي وقت لم تكن فيه الحوسبة قد شقّت طريقها بعد إلى المؤسسات الرسمية، أقدم على خطوة جريئة: تحويل أرشيف المحكمة التي يعمل بها إلى نظام إلكتروني. بادر بإدخال الحواسيب إلى قاعات الجلسات وأرشفة القضايا رقميًا، متجاوزًا زمن الملفات المتراكمة، ليكون من أوائل من أدخلوا التكنولوجيا إلى العمل القضائي في مصر. قد تبدو الخطوة بديهية اليوم، لكنها يومها كانت ضربًا من المغامرة الإدارية التي أكسبته احترام زملائه ودهشة المتعاملين مع المحاكم.

قاضي التخابر والهروب الكبير

لكنّ لحظة المجد القضائي الحقيقي للمستشار شعبان الشامي لم تأتِ إلا بعد ثورة 25 يناير 2011، عندما أُسندت إليه قضايا من العيار الثقيل، على رأسها قضية «التخابر» و«الهروب من سجن وادي النطرون»، التي حوكم فيها الرئيس الأسبق محمد مرسي وعدد من قيادات جماعة الإخوان. في تلك القاعة المشدودة، كان الشامي يجلس بكامل هيبته، يصغي، يدقّق، يسأل ويقاطع، لكن دون أن يفقد أعصابه. كان يعلم أنّ عيون المصريين كلها مسلّطة على محكمته، وأنّ حكمه لن يكون مجرّد قرار قانوني، بل شهادة على مرحلة مفصلية في التاريخ الحديث.

ومن داخل قاعة المحكمة، صنع لنفسه صورة القاضي الذي لا يهتزّ. لا يخضع للضغوط، ولا يهادن، لكنه أيضًا لا يستعرض. أداؤه كان مزيجًا من الحسم والرزانة، مع لمحات إنسانية تُباغت الجميع في لحظات التوتر الشديد.

في وداعه الأخير… صمت يليق برجل العدالة

في يونيو 2015، شوهد المستشار شعبان الشامي إلى جانب المستشار أحمد الزند، وزير العدل حينها، خلال الجنازة العسكرية للنائب العام هشام بركات، الذي استشهد إثر هجوم إرهابي. يومها، وقف الشامي متجهمًا، صامتًا، كأنّه يعلم أنّ قدر القضاء في مصر أن يبقى في مرمى النار، يلاحق الحقيقة مهما كانت الكلفة.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى