كتب: حاتم عبدالهادي السيد
يرصد لنا الشاعر حسونة فتحي في ديوانه : ” قصائد فرَّت من الحرب” أوضاع الواقع الذي عاشته سيناء، وتعيشه، من جرّاء الإرهاب تارة، ومن جراء جائحة كورونا تارة أخرى، وما نعيشه من واقع على الصعيد القومي، حيث خُنِق الحب، وفرت القصائد من الحرب، وعاش العالم ، وأبناء سيناء، وهو حياة لم تكن مألوفة، أو متصورة؛ فغدا الشاعر يصدح في كل اتجاه؛ ويوزع مشاعره بين كل الأحداث الراهنة، والمستقبلية، وتتجلى المشهدية في قصائد حسونة فتحي، فلا يمكن تفسير العمل الأدبي إلا من خلال شكا ” شعر الكتلة النثري” ، وهو أحد الأشكال النثرية التي نادي بها الشاعر أمجد ناصر، أو هي القصيدة البصرية المشاهداتية لقصيدة النثر، والتي أصطلحها – فكأنك تعيش الأحداث عبر الصور الشعرية لما حدث، ويحدث، فهي قصائد راصدة، توثيقية، حالمة بغد أفضل لعالم ما بعد الجائحة، وبعد الخوف والعزلة والسكون ، والتباعد المكاني خشية المرض، وغير ذلك.
يقول في قصيدته : ” عن الموت بلا وداع ” : ( كواحد ممن تجاوزوا الستين / ومن الذين إذا أصابتهم مصيبة تذكروا مصيبةً تشبهها / أو تزيد عنها لعنةً وقسوةً / ومن الذين جاءتهم الحرب / من بين أيديهم ومن خلفهم / دون أن يغضبوا الله بقهر نسائهم / أو بترك عقولهم للجاهلين /ومن الذين تخلصوا من مهامهم الوظيفية / بفرح طفولي / كيف لي أن أكون ليّنًا مطيعًا مستسلمًا لأوامر؟!/ للصباح تمريناته المعتادة / محاولة بائسة لبسط العضلات المنقبضة / من وطأة الالتزام / وللمساء / حكاياته البطيئة عن الموت السريع “/في الحبس، الذاكرة هي الخل والعدوّ” /تلك حكمة مولانا مانديلا /والحكمة الباردة تقول: الحبس صبر وتأمل! / في بلاد دافئة؛ تقول الغريبة: / كل دمعة وراءها قريب. / ويقول طبيب: / تباعدوا.. كقطبين متنافرين / ولتكن مناعتكم قوية كبوابة قصر / كيف؟ /ولا مناعة مطلقًا / في حضرة امرأة جميلة / ولا عافية بلا أحضان الأحبة / وما من غريبة إلا وأضاعت حكمتها! / بكمامة محكمة على الفم والأنف / بقفازات تحد من حاسة اللمس / بمحاليل تطرد كائنات الفراغ / بمنظفات عدائية التكوين / بتوجس من عطسة بلغت مسامعك / برعب من سعال امرأة عجوز / يمضي نهار يومك / ولا شيء يحزن القلب / مثل فقد دون وداع / في مقهى قديم / ومع صحبة قديمة / كان صوت” الكاسيت” يجلجل: ” وصفوا لي الصبر ” لم نعرف- تحديدًا- من الذين وصفوا / لكن المؤكد أنهم ليسوا الأطباء / ولا الغريبة /ولا من جربوا الحبس / “ليالينا الحلوة في كل مكان” / إذن تلك هي المسألة / ولتكن لياليك الحلوة في هذا المكان / المكان الذي تجلس فيه الآن / ولا تنشغل بحَجر / أو حظر / أو إحصاءات).
وفى قصيدته : “علامة ” نراه يستخدم مفردات الواقع اليومي، ويحيلنا إلى جوانب أخرى عبر قصيدة : ” الحب والمرض ” ، ولعلني – هنا أصطلح – الكثير من المسميات للقصائد، ولأدب ما بعد كورونا لنرصد تحولات الشعرية في مجابهة المرض والوباء العالمي، وفى تجديدية الشعر بإدخال مفردات طبية ومن علوم أخرى لتجديد لغة الشعر، ولتجديد الذائقة كذلك، وتلك لعمري تجديدية – على مستوى الشكل والمضمون – وعلى مستوى اللغة والتصوير والتخيل، وكأننا ننتج قصيدة موازية؛ وفضاءً مغايراً للشعر في ما بعديات عالم كورونا، يقول : رغم التحذيرات / والقوانين المشددة بضرورة التباعد / ومنع الاختلاط / يمكنك أن تجتاح خلوة امرأة / أن تقتحم حصنها / أن تمزق ملابسها الداخلية / دون خوف / أو تردد / فقط إذا رأيت منها علامة للرضا / كان رجال الأعمال / يبحثون عن علامات الرضا / في صوت وملامح / ونظرات وحركات / أوناسيس / فإن وجدوها تمسكوا بعرضهم المالي / ونجحوا في اقتناص الصفقة / بعد خسائر عديدة؛ / حكم أوناسيس/ في نبرة صوته وعضلات وجهه /أخفى عينيه بنظارة سوداء / ونسي أن علامة الرضا / قد تكون في حركة أنكل قدمه / ليس بين النساء واحدة في غباء أوناسيس / لذا لن تجد علامة الرضا بتلك السهولة / / ستطيل البحث وستظل كالجالس” في انتظار نضوج الحصى”* / وربما تمضي عمرك كله منتظرًا /تلك اللحظة العصية / التي تفصح فيها امرأة عن علامة للرضا.
ولعل شاعرنا / حسونة فتحي، كان أكثر وعياً في توثيق ” أدب الجائحة ” ، فنراه يوثق لما بعديات المرض ، أو يوميات العالم بعد جنوح الجميع لملازمة ” البيت ” ، ” المنزل ” ، ونراه يستعيد عبر تقنية ” الفلاش باك ” أحداثاً مرت به، وذكريات قديمة انتابته وهو جالس ” في البيت ” ، فقد بدأ يعدد ما بالحجرة من أثاث، وأشياء تذكره بقصص ومواقف أكثر عمقاً ، ومشاهداتية ، وينقل لنا حياة مواطن / حياته / يوم في المنزل وما يمكن أن يفعله ذلك المعزول – اضطراريا – بفعل الجائحة، فليس أمامه سوى ألبومات الصور، والاستماع إلى التلفاز، أو سماع الأغاني، مسيرة الأبناء، الحديقة، حقائب السفر وغيرها من مواقف استدعتها الوحدة والانعزال، والجلوس في البيت عبر أدبيات ” أدب البيت ” ، وتلك لعمري قصائد ” الحجرة والعزلة ” ، وهى أشكال أنتجتها العزلة القسرية للجائحة.
يقول في قصيدته : ” حَجْرٌ ” : ( بانقضاء اليوم الأول / بعد الألفين / من أيام الحظر.. / والحجر / تكون قد اعتدت تمامًا /أن تلزم بيتك / أن تألف كل من فيه، و/ كل ما فيه / وتحفظ كل شيء عن ظهر قلب / تستذكر كل الحكايات الصغيرة / التي مرّت / منذ أن أحاطت بك جدرانه غرفة النوم / هذه أعجبتكَ من بين مئات الحجرات فاشتريتَها / وحين أخبرتَ خطيبتك قالت: تمنيت حجرة بيضاء /شاهدتها في معرض موبيليات العروسة / لتكتشفا أنها ذات الغرفة. / هذه السفرة التي اشتريتها- منذ زمن سحيق- / بعد أن أصابك الانزلاق الغضروفي / إثر سقطة مباغتة / ولم تعد تقدر على الجلوس أرضًا / لتفارق- مرغمًا- حميمية” الطبلية”/حجرة الأطفال / الأبواب / الأكواب / الأجهزة الكهربائية / المقاعد /السجاد /الأرفف /الكتب المكدسة في كل الأركان/ السهرات العائلية /الضيوف والمناسبات / ضحكات من رحلوا /ألبومات الصور القديمة /الحديقة التي التهمها التوسع والبناء/ لحظات الزهو بكتابك الأول /مواعيد عملك النهاري وعملك الليلي حقائب السفر أبناؤك الذين كبروا فجأة وأصبحوا آباءً القهوة.. بلا مواعيد محددة رفيقة الدرب الرءوم قبلات الأحفاد حفل التقاعد /هواتفك القديمة….. …. آلاف الحكايات الصغيرة / الكفيلة بإقصاء وجه الملل / من طول انتظار فناء العالم/ كما تنقل لنا الشاشات والسفهاء / لا شيء جديد فالناس منقسمون- دائمًا- / بين عنف ماركيز / ومثالية دويستويفسكي / ولا يلتفتون ل” خواطر حمار .. للحقيقة /سر سعادتنا أننا أغبياء جدًا” عبارةُ من أحد الأفلام الأجنبية.. ربما Ice Age / وربما يكررون نفس العبارة في فيلم جديد يحمل اسم Virus Age / وتلك مزايا أن تلزم بيتك / تجتر الحكايات تقرأ / تشاهد الأفلام / تتابع الشاشات / تشتاق / تتقرب / تتخيل /تحصي الأيام / حتى اليوم الثاني بعد الألفين، من أيام الحظر / والحجر) .
ولعلى أقول : إن الشاعر / حسونة فتحي قد استطاع توثيق ورصد الكثير من مشهديات ” أدب الجائحة ” ، بل وكتابة تاريخانية المرض، ومواقف الفرد، والناس عبر العزلة والجلوس في البيت، كما رصد لنا وقائع ” أيام العزلة ” ، وهذا لعمري ما لم يوثقه الكثيرون، الذين اكتفوا بالحديث عن كورونا والمرض والخوف من ذلك المجهول المفضي إلى الموت، لكنه رصد لنا يوميات تلك العزلة، ومظاهر تلك الجائحة، وهذا المرض، وكيف تعامل الناس معه، وكيف استطاع تزجية الوقت كي لا يصاب بالملل، بل والمرض النفسي الذي أصاب الكثيرين بفعل الخوف، والعزلة، والجلوس الاضطراري تارة، والقسري بفعل الحظر تارة أخرى، كما ربط الحظر من جراء العزلة بالحظر الذي تعانيه سيناء من جراء ما لاقته من أيام الإرهاب، وما تلاقيه والصراع بين الجماعات الإرهابية والجيش، وإن لم يتحدث بشكل مباشر ولافت، ولكن من بين ثنايا الوجع المتبدي من هذه القصائد الحزينة، الجميلة، التاريخية التوثيقية، والمفارقة، والتي يستشرف فيها أفقاً مغايراً للشعر عبر مستوى الشكل والمضمون، والموضوع، ولغة التناول أيضاً.
يظل / حسونة فتحي أحد الذين أدركتهم الجائحة فوثق لها بجدارة، بينما غيره لا يزل يقبع في برجه العاجي، ينتظر ولوجاً ، أو وحياً شعرياً لا يجيء، لكنه أدب الواقع والحظر، وقد جسده لنا حسونة فتحي بمهارة وتصويرية شاهقتين، واستطاع أن يقدم القصائد الحداثوية الجديدة لأدب العزلة، والسكون والصمت، ولأدب كورونا، وما بعدياته الممتدة .