أحضان وقحة …..قصة فتيحة بنت قادة – الجزائر
أحضان وقحة …..قصة فتيحة بنت قادة – الجزائر
استيقظ الشارع على ضوضاء الأطفال المتوجّهين إلى المدارس، تخرج (بختة ) وجهها الأشقر من الشباك و تكحّل عينيها بمروذ لا تملكه في حقيبة زينتها ، ثم تلتفت إلى الإبريق الذي لفظ زبده ،تجلس تحتسي قهوتها مرّة دون حلو التمني الذي اختفى مع اقتحام سنّ اليأس لرحمها ،على أنغام فيروز( سألتك حبيبي لوين رايحين …) في ديو مع الأنغام ينظّم زوجها – إلى حمام المدينة ،و هو يغرق نصف قطعة سكر في فنجانها و النصف الآخر في فنجانه و يواصل الغناء. أنا كل ما…محاولا تبديد تفكيرها بغناءه ،الظاهر أنّه رأى رزمة أعراضها ،ينهل من خزينة( بختة )أو( لالّة بختة ) كما يناديها الجميع ما يشاء فهي نهر جاري ورثت الكثير عن عائلتها و هو زير لعيب يتمتع بخيرات النهر
رغم أنّ كلّ نسوة الحمّام يتمنين خدمتها إلاّ أنّها طيّبة و تعامل الجميع بتواضع ، تخرج من الصونا تجلس على أريكة بيضاء كوردة حمراء في كومة ثلج تبحث عن حب لكنها لا تنتبه لجمالها و لا لمالها، فكلّ الخدم و الحشم حولها و بتلّات الورد الوردية الطافية على صفحة الصونا أكوام رماد تزيّن السندريلا تنتبه للوقت الذي يفلت منها ترفع نظرها تنتبه لعقارب الساعة الحائطية المتعاقبة و المتسارعة ، و لبكاء طفل مستمّر تهدّئه فتاة هناك عند مدخل الحمّام ، تناديها تتقدّم الفتاة بخطى عرجاء ذليلة تعرض ما بين ذراعيها بضاعة غير مرغوب فيها ،بضاعة ملفوفة بفوطة حمراء ـ جفّ اللبن و أبوه تبرّأ منه ،خذيه سيدتي أنا أيضآ لا أريده لا أقوى على قوته ،مدّت( لالّة ) يديها المتعطّشتين و التقطت الصبيّ دون تردّد ،دون تفكير، رحمة بي أيتها العقارب توقّفي للحظات ،وجدت ماسة في كومة رماد ،و أفرغت جيوبها المليئة في الحجر الفارغ و لم تأخذ منها غير اسمها و عمر الصبيّ فمنذ يومين غادر رحم( خضرة ).
عادت إلى البيت كبقعة زئبق لا يمكن التحكم بها ـ ( ميلود ) إنه ولد سنربّيه ،رزق ،نسميه رزقي ،أبوه تبرّأ منه و أمّه فتاة لن تفضح نفسها .أظهر( ميلود) كلّ أنواع الرفض و الكلام الجارح و الحاد و ثار كثور سيرك هيّجوا أعصابه بقماشة حمراء ،لم تأبه له (لاّلة )و مضت تغلّي الماء و تعقّم الرضّاعة ،تسرع إلى الفناء تضع طاس الماء المغلي في حوض الماء كي تتبعثر الحرارة تتعثر فيندلق بعض الماء المغلي على الفوطة الحمراء المرمية على العتبة ،فتسلق صوف نسيجها و تفوح رائحة عفنة بحاسّة خبير ليست غريبة و لكن الفرحة تردي الخبير مبتدئ ،يزداد تهيّجه حين يشتمّ الرائحة العفنة و يركل القماشة ،يجهز الحليب و ينكتم البكاء و يحلّ محلّه صوت ازدراد الحليب ،رشفات و تجرّعات متسارعة يسمع مجراها و مرساها الفارغين ثم تصفر الرضّاعة معلنة انتهاء سويعات الجوع و بداية زمن البحبوحة و ينام .تجمع (لالّة) الأسمال التي كانت على الصبيّ في كيس القمامة الأسود فيختفي اللون الأحمر و يلفظ (ميلود) زفير الغضب من أنفه و يهدأ ، يمسح رعافه و يغمر رأسه في حوض الفناء تتبعثر خيوط الدم و يتلاشى لونها خوفا هروبا من هيجان آخر ،تهدّئه تبرّد قفاه بكيس جليد أخرجته من المجمّد فالرعاف من عادته و شفرة اللاّمبالاة حادّة تذبح شرايين أنفه كلّ مرة و مرايا القصر منتشرة في كلّ ركن محدّبة و تضخّم أنفه ، تعطبه كلّ ما نظر إليها ، تلفّ (لالّة) رأسه بفوطة بيضاء ،ترشّ وجهه بماء الورد ،تقرّب نصف ليمونة خضراء طازجة من أنفه ،توكّئه على وسادة طبّية ضدّ الحساسية قرب الصبيّ فهي مروّضته و تعرفه متى يثور ،و متى يهدأ و متى يلوّح بمنديل الاستسلام الأبيض و أنّه في حضرة (اللّالة) و مالها تخرس كلّ الأصوات ،التأوّهات ، البكاء و الخوار…
يرسل نظره عند طرف عينه إلى الملاك النائم فيلعب على مشاعره التي ترفض شيئا و تقبل أشياءا على مضض، يقرّب أنفه النازف يشتّم راحة الملاك فيندلق عطر وليد يجبره على تحمّل تجاهلات ( لالّة) لثورته و نزواته اللاّمتناهية ،ترقب دنوه تفرح و تحضّر العشاء بكلّ حبّ و كأنّ النار لم توقد من قبل في ذاك المطبخ ،الليمونة لم تكن وارفة الظلال قبل هذه الليلة ، نباتات الدار و أزهارها تعرفت عليها الليلة فقط .
و عاش الزوجان يتمتعان بالرزق و (رزقي) عيشة هنيئة يحسدهم عليها كلّ من يراهم ،و مضت الأعوام و المواسم و أعياد الميلاد حلوة يحلّيها (رزقي) و كأنّ الشموع صنعت من أجله هو فقط . شبّ رجلا ،ناجحا ،طيّبا، مثل أمّه طبيبا يحضر لحفل التخرج ،وضعت ( بختة )الأزهار و الورود في كلّ أركان قاعة الحفل و ربطتها بأشرطة خضراء اللون ،و في بهو المدعوّين لم يتحكّم ( ميلود) في فرحته و سقط مغمى عليه ، نقل إلى سيّارة الإسعاف و في الطريق لملم ما بقي له من نبض و حرّك أصابعه التي تلفّها راحة زوجته الرحبة إحتضن يدها مستسمحا ـ سامحيني ،عرفت الكثيرات …ـ دعك أفق إنّه حلمنا يتحقّق ـ (رزقي) ابن (خضرة ) العرجاء ابني من صلبي ،و توقّف النبض عند توقّف عجلات سيّارة الإسعاف و أفلتت يدها من أحضانه الوقحة، يعجّ مدخل المشفى بالممرضين و المدعوين الذين لحقوا سيارة الإسعاف ، كزوبعة رملية تحجب عنها السمع و البصر تتصاعد كلمات الرحمة ،بصعوبة تجمع حواسها ، تمدّ بصرها إلى عاملة تنظيف عرجاء تحمل دلوا و مكنسة يناديها أحدهم بلون الأشرطة التي تزيّن الحفل.