
في مشهد يلخص واقع الصراع المتجدد في قطاع غزة،عشية تنفيذ الانسحاب صباح الأحد، انتشرت مقاطع مصورة على شبكات التواصل الإسرائيلية، تظهرقوات الإحتلال وهي تدمر منشآتها في المحور. وتحرق المباني والمعدات التي أقامتها.في مشهد يحمل رسالة واضحة: إذا غادرنا، فلن نترك شيئا قائما. جاء هذا الانسحاب في إطار الترتيبات الخاصة بالهدنة التي ترعاها مصر وقطر والولايات المتحدة. والتي تنص على انسحاب جيش الإحتلال من المحور بعد ثلاثة أسابيع من بدء تنفيذ الاتفاق، كجزء من صفقة تبادل الأسرى بين الجانبين.
بين انسحاب تكتيكي وهزيمة استراتيجية
بالنسبة لحركة حماس، كان هذا الانسحاب بمثابة اعتراف إسرائيلي صريح بالفشل. حيث وصف القيادي في الحركة، سامي أبو زهري، الخطوة بأنها “إعلان هزيمة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. الذي فشل في تحقيق أهدافه أو تثبيت وجوده في غزة”. ورغم ذلك. تبقى التساؤلات قائمة حول مدى استدامة هذا الانسحاب. خاصة في ظل التهديدات الإسرائيلية المتكررة بالعودة. ما يجعل المحور قنبلة موقوتة مرهونة بتطورات المفاوضات ومدى صمود اتفاق الهدنة.
نتساريم: المحور الذي عرقل مسار السلام
تمتد أهمية محور نتساريم إلى عقود مضت. حيث شكل إحدى أبرز نقاط الخلاف خلال مفاوضات أوسلو عام 1993. ورغم موافقة إسرائيل آنذاك على إخلاء قطاع غزة وإزالة 21 مستوطنة بالكامل. فإنها تمسكت بالبقاء في نتساريم. وهو ما أثار استغراب الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. الذي رأى في ذلك مؤشرا على وجود أهداف استراتيجية بعيدة المدى وراء هذا الإصرار.
في نهاية المطاف، نجحت الوساطات الدولية في التوصل إلى صيغة حل وسط. قضت بانسحاب إسرائيل من القطاع مع الإبقاء على سيطرتها الأمنية على المحور. بينما تتولى السلطة الفلسطينية إدارته مدنيا، في نموذج مشابه لمناطق “ب” في الضفة الغربية.
لم يكن الاستيطان في نتساريم ذا طابع مدني، بل كان مستوطنة ذات بعد أمني بحت. أقيمت عام 1972 بمبادرة من الجنرال أرييل شارون، ضمن ما عرف بـ«خطة الأصابع الخمس».التي هدفت إلى تقسيم غزة إلى أربعة قطاعات منفصلة عبر محاور إسرائيلية تسهل السيطرة العسكرية عليها. ورغم أن عدد العائلات المستوطنة لم يتجاوز 60 عائلة. إلا أن المحور ظل يمثل نقطة استراتيجية محورية لإسرائيل.
على مدار السنوات، شهد نتساريم العديد من الهجمات الفلسطينية المسلحة. وكان قريبا منه المكان الذي قتل فيه الطفل محمد الدرة أثناء انتفاضة الأقصى. ما جعله رمزا في الذاكرة الفلسطينية.
نتساريم: الاسم والدلالة
اسم “نتساريم” ليس مجرد اختيار عبثي، بل جاء بقرار من الجنرال اليميني المتطرف رحبعام زئيفي، الذي استلهمه من اسم مخيم اللاجئين الفلسطيني “النصيرات” المجاور للمحور، في خطوة تعكس الطابع الرمزي والأيديولوجي للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي. الهدف الاستراتيجي للمحور كان ضمان السيطرة الأمنية المباشرة على ميناء غزة، حيث يشطر القطاع عرضياً من شرقه إلى البحر المتوسط غربا.
ورغم أن أرييل شارون، عندما أصبح رئيساً للحكومة الإسرائيلية. اعتبر نتساريم مساويا في أهميته لتل أبيب، قائلا عام 2003: «مصير نتساريم مثل مصير تل أبيب»، فإنه اضطر في عام 2005 إلى الموافقة على الانسحاب منه، وتسليمه للسلطة الفلسطينية ضمن خطة فك الارتباط.
إعادة الاحتلال وتوسيع النفوذ
بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر 2023. أعادت إسرائيل احتلال محور نتساريم، محولة إياه إلى منطقة عسكرية ضخمة تتكون من 20 قاعدة عسكرية كبيرة وقواعد صغيرة. مع توسيع مساحته ليصبح مربعا بطول 8 كيلومترات لكل ضلع. ورغم الوعود السابقة بالانسحاب، فإن البنية التحتية الدائمة التي أقامتها إسرائيل، بما فيها الطرقات والأبراج والمرافق العسكرية، تؤكد أن تل أبيب لم تكن تنوي المغادرة بسهولة.
وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المحور بأنه “أحد أهم أركان الأمن الإسرائيلي في غزة”. ما يعكس حقيقة أن انسحاب الجيش منه ليس بالضرورة نهاية المطاف. بل قد يكون مجرد خطوة مؤقتة ضمن استراتيجية أوسع تضع سيناريوهات متعددة لإعادة الانتشار، بحسب تطورات المشهد السياسي والعسكري.
مستقبل المحور بين السياسة والميدان
في ظل هذه المعطيات، يبقى التساؤل الأهم: هل يمثل الانسحاب الإسرائيلي من نتساريم خطوة حقيقية نحو التهدئة، أم مجرد إعادة تموضع استعدادا لجولة قادمة؟ فبينما ترى حماس فيه انتصارا يكرس فشل نتنياهو. تصر إسرائيل على أن هذا الانسحاب لا يعني نهاية سيطرتها على القطاع، بل هو مشروط بالتطورات الأمنية على الأرض.
ويبقى محور نتساريم مثالا حيا على تعقيدات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. حيث لا تعني خطوة الانسحاب بالضرورة إنهاء النزاع، بقدر ما تعيد رسم ملامحه وفق الحسابات السياسية والعسكرية للمرحلة المقبلة.
