ثقافة و فن

فيزيائية الشعر السوريالى والشعر الصوفى الذاتي

كتب / حاتم عبدالهادي السيد
يعد ديوان : “جوازاً تقديره هو ” ؛ للشاعرة اللبنانية الشاهقة / ماجدة داغر من الدواوين التى تأخنا –منذ البداية – إلى فضاءات أكثر دهشة، وإشراقاً ، فحروفها تماثل الفسيفساء الذهبية، أو البللور المسجور، المخلوط بسحر النُّور ، الذى يخش إلى الروح مباشرة ، دون اسئذان . والديوان رفدته بعنوان جانبى هو : ” كتابات مائلة”؛ وهى كتابات متسقة تماماً مع ذاتها الموجوعة الشاهقة، التى تتغيَّا فضاءاتٍ جديدة للشعرية العربية المعاصرة .

إنها إذن تسكن الفضاءات، الثقوب، تتشهى الحب، فلم تعد تجدى القصائد المهترءة؛ لذا تطلب من الشعراء أن يُعَرُّوا قصائدهم من المسافات، ليكشفوا عن ذواتهم الخبيئة ، دون قيود، أمام مدينة الحب،وبيت السلحفاة الضيق؛الذى تشرنَقَ على جسدها؛فأحالها إلى مسجونةٍ بلا إفضاء، بلا بوحٍ سوى الهسيس، والهمسِ الذى لا يُدَبِّق الروح، ولا يبلل ريش العصفورة الآسنة . ولعمرى فهى تجأر في بَرِّيةِ الكون، عبر لغة شعر الهايكو، وفضاءات الجمال الذاتى والكونى الصادح في الوجود الإنسانى الممتد، تبحث عن ظل، ونيلٍ يروى فرات دجلاها العطشانة ، تقول عبر ” أغنيات بيليتيس” :
وحده أحمر شفتيها يرمم وجه البحر .

فأىُّ جمال لصورة بهية سامقة كتلك، وأى جماليةٍ لأحمر شفتيها الذى يرمِّم وجه البحر؛ بعد أن فقد زرقته، ليعود ليثور من جديد ، وتعود إليه زرقته مخضبة بأحمر شفتيها الضَّاجتيَنِ بعطر أنوثتها الأشهى!! .

إنها الشاعرة التى تعيد تثوير جماليات الصورة الفنية ، عبر شعرية جديدة، وصورٍ طازجة من منمنمات الهايكو ؛عبر سيموطيقا الجسد الفَوَّار، والهادر كبحر ترجو إعادة ترميمه ، لتعيد إليه الثورة/ الحيوية / الشباب، فيصبح فاعلاً متخلقاً ، تصنعه من عجينتها، وتشكلها بروحها النزقة ؛ الجوعانة للحب الذى لا يجىء، لذا نراها عبر قصيدتها : “مرثية النزق ” ، قلقة طوال الوقت، إذ تمكثُ تحتها اللحظة الثابتة ، والموت، وهما ضِدَّان يتقابلان لديها عبر فيزياء الشعر الذى تُخَلِّقَهُ من شهقة الأنثى ووجعها الزاعق ، فهى تستلقى على الهاوية التى تتسلق الأعلى ، عبر أضّدَادِ الصور، تخالفية التوقع، فتستخدم الصورة وظلالها التخاتلية عابرة ما بعد-حداثة الشعر؛إلى آفاق مخيال أكثر إدهاشاً وجمالية، وأكثر جلالاً . ولعمرى فهى تشكل الصورة الفنية بأحمر شفتيها، لتعيد لها السموق والبهاء، وتلون وجه البحر بقلبها بكل الألوان القزحية لتشكل قوس الشعر الصارخ بسهام كيوبيد، وبقوة عشتار، وضراعة آمور، وعشق عبلة المشتهى القوىِّ ؛ الذى لا تجرفه سيول، ولا تتخطفه ذئاب البرِّيَةِ الجائعة، فهو جوع الذات، أمام عطش الجسد الفيزيائى ؛ الإيروتيكى ؛ الصوفى، وكأنها تصنع صوفية للذات عبر جسد رفَّ ، وشفّ، وطابَ لمستساغ القطف، ولا من قطاف، فلا من فارس يجىء ليرَوِّى غُلَّة العطش السيموطيقى الممتد ، تقول :

تحتى اللحظة الثابتة
تحتى موت يطول.
أستلقى على المسافة القاتلة
والإحساس بالهاوية
يتسلق الذروة
أستلقى على شعرية النار
أين عصفك،
ولك مديح الغربة ؟
لك لإيماءة منكسرة
وتحتى موت يطول .
تجىء والعدم المُرائى
تهز عرش الثبات
ولا سقوط .
الطريق المرصوفة بالذكريات
لا توصلك إلا إلى الحداء
وبيتى أصم قرميده .
لا طريق إلى بيتى
العاصفة سرقت الجهات
فصرتُ البوصلة .

إنها الحائرة القلقة، تعيد مواضعات الذات؛ عبر رهاب الماء، لتكوثر العنابة المبتلة وتهيأ الجسد للعصف، عبر صقيع الروح التى تجأر في برِّيّةِ العالم والكون، فتصنع لنا الصورة الكونية الباذخة ؛ وتسقيها بفرادة شعرية مائزة، تَتَفرَّدُ، وتفردُ مساحة البوح لتسع السماء كعصافير تحوم، وطيور قلقة تعبر إلى لا منتهى، ودون إشباع من ذلك المستتر وجوباً ، جوازاً ؛ الذى لا يعرف أن البئر حرون، وأن لحظة اشتهاء كفيلة بصنع فردوسٍ مفقودٍ ، تريد له الحضور ليعصف بذرات الوجيب، فهى إيروتيكا تسبح عبر غُلالة الفضيلة، فضيلة الحب والعشق، والصفاء الروحى للبوح المشتهى اللذيذ، تقول :

مشردون وشعراء ونمل أبيض
ظننت أنك الغيمة الأخيرة
سقف غرفتى مازال رطباً
ووجوه كثيرة تقتات بكائنات لزجة متبسمة .
وجهك ترك صغاره هناك،
يكبرون تحت المظلة
كجزيرة لقيطة بنخلة وحيدة، ورهاب الماء .
جطامى بقى هناك
بعثره قراصنة الموج.
بقيت هناك فوق ظهر السفينة
تطاردنى عينان زرقاوان
وحيدتان في نمش ٍ مصاب بأرق الموت
لم يقل لى أحد إن الغد أزرق .

إنها تؤسطر الحروف، وتموسقُ الروحَ لتصنع أسطورة وجودها، عبر فضاءات البوح الرامز، والحرف الذى يُضَوِّى عتمات الطرق عبر مفاوز الحياة . تماهى الأسطورة – أسطورتها – بين الذات الهائمة،والحبيب المشتهى، وتعبر عبر الضوء المُتَكَسِّر الشفيف إلى فضاءات الهروب، تهرب إليه ، ليخطفها إلى جزيرة الإشتهاء، الرَّىِّ ؛ لكنه يقف مستتراً ، عاجزاً أمام تأوهاتها الصائحة، وعربة روحها التى تقرقع الوجع ؛ دونما وصول لنقطة، نقطة فاصلة، أو عناق لطائر البلشون الذى لا يجىء، فهى تسبح في واقع متخيل، ولا متخيلٍ قد يجىء أيضاً، عبر مابعد حداثة جديدة للشعر، وفضاءات ربما لم يسلكها إنس ولا جان، فهو عطش الحب وجوعه، وآهٍ من عطش العشاق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى