نافذة .. قصة قصيرة بقلم : حسنى فاروق
نافذة ..
قصة قصيرة بقلم : حسنى فاروق
دفاترى قبر يدفن فيه القلم موتاه …………. ” شيخ الفقراء ”
ولما كانت الليلة الألف ، بدا طفل نحيف كعصا الفرن ، يبحث عن ثوبه وسط أكوام الطيور المدربة ، ينفض عن يديه الدماء الطائشة التى تتسلل إلى جلده خلسة ، يدق بكعبيه عظام الشارع الترابى ، ويتشعبط فى أذيال القصائد المحشوة بالنفايات ، ومسوخ التواريخ ، وأمام عتبة البيت يتقوس حول نفسه كعظام فى قفة ، يفرك لحم كفيه المقدد كى يتفادى مكر السوس وينام .
فى الصباح ، جسد مغروس فى الأرض يتململ فى رقدته ، يعافر كى يعتدل فى جلسته ، ينظر بجانب عينه إلى الساحة الممطوطة ، ربما عادت أمه ـ ربما ـ ، ولكنها لم تعد ، يسّاقط داخل عروقه تعاويذ الغواية ، وسقط السلالات .
فى حجرها كانت تضعه أمه ، تكشف عن صدرها الناشف إلا من حلمتين مشدودتين كخرقتى جلد ، تقفان هناك على استحياء ، يلتقم الواحدة فى أثر الأخرى ، كم أخرجتا رجالا ، تهزه بفخذها كى ينام ، تناغيه : هييه … نام … وادبح لك جوزين حمام .
جوار فلق النخيل ، وقف غير عابئ بتلك الريح التى تكشف عن ساقيه ، أو تلك الحصوات التى تندس فى عينيه ، يبحلق فى النوافذ المدقوقة فى أوجه البنايات ، ربما أطلت أمه ، أو ربما يسمع ، ……….. لم ير ولم يسمع .
عندما قبّل يدها فى أول يوم له فى المدرسة ، وضعت فى يده بضعة قروش ، قالت له : حلق فوق جماجم الشعراء ، حاذر وتحل بالصبر ، يبزغ دم الأحصنة ، وعندما عاد إلى البيت لم يجدها .
أمه لم تعد ، لم تعد بوجهها المصلوب ، ولم تعد بمسامير الوقت ، ولم تحمل معها طلقات المخاض ، بطنها المنفوخ لم يكن يحمل سوى دماء النهر المشنوق ، قلبها الطينى لم يعد يدق كقدح الرحى ، أو يحكى عن التاريخ الموحل ، لم تعد تثرثر ببلاغة الجياد ، أو تطل من النافذة كل مساء على الوجه المعتم من العالم ، حتى الغربان التى تحط فوق عتبة البيت تسللت فجأة داخل جلدها دون أن تهشهم بخفها كعادتها ، ولم تعد المرأة هى تلك الفتاة التى تقف صامدة فى وجه الريح لا تتقهقر قيد شبر .