قصة وقراءة للناقد حاتم عبدالهادي السيد :القصة الإنسانية العالمية… وما بعديات الواقع السيميائي ..قراءة جمالية في قصة : “الحصان العجوز “
قصة وقراءة للناقد حاتم عبدالهادي السيد :القصة الإنسانية العالمية… وما بعديات الواقع السيميائي ..قراءة جمالية في قصة : “الحصان العجوز “
حاتم عبدالهادي السيد
يحيلنا المبدع محمد الحديدي – منذ البداية- في قصته البديعة ” الحصان العجوز” إلي الواقع الذاتي للإنسانية؛ وطرائق الحياة ونظامها عبر رؤيوية تأخذك من ذاتك إلى عالم الواقع المُر؛ أو هو التوت المر الذي يضفي تنويعات الحزن على الواقع الذي لا يرحم فيه الإنسانُ الإنسانَ؛ بل وينسحب ذلك إلي الحيوان كذلك .
إنها القصص الإنسانية الكبري؛ التي تنحو إلى العالمية التي تتمركز حول قيم الإنسانية الجميلة كالشفقة والرحمة؛ والحب،والعطف على الناس والحيوانات والموجودات التي خلقها المبدع الأول للحياة؛ وسخرها لنا لا لنستعبدها؛ بل لتعيننا علي تحمل صعوبات الحياة وقسوتها وآلامها؛ ومرارها الشهي كذلك .
وأعني بالقصة العالمية الكونية هي ذلك السرد الذي يستقطر الحياة الإنسانية؛ ويعبر بالقيم النفسية والروحية والإجتماعية والذاتية إلى آفاق أكثر براحًا؛ عبر المثيولوجيا الواقعية التي تعيد ترتيب الضمير الإنساني؛ وتعيد للإنسانية صورتها الجميلة المسالمة بعد أن ولغت في حُميَّا الدم؛ ومشهديات القسوة والظلم والرهبةت ؛ تلك لعمري تمثل لا انسانية الإنسان الذي من المفرترض أنه يمثل ظل الله على الأرض؛ أو هو الذي اختصه بالعقل والمشاعر لتدوير شئون الواقع؛ والكون والعالم والحياة .
ومبدعنا الحديدي يبدأ من نقطة تكوينية – عبر الأصالة – لبنائ سرده الماتع ؛ إذ يدلف إلينا من وجعة الحياة؛ حيث يفتتح قصته الماتعة بكلاسيكية قديمة؛ – يقصدها – لتتماس مع واقع الأصالة للحارة المصرية القديمة؛ ولعالم الحياة لفقراء مصر القابعين في ذاكرة الإنسانية؛ فرأيناه يبدأ بإشراقة الشمس التي تشرق بنور ربها عبر تماثل سياقي روحي مع الطبيعة؛ فالضوء يتم نشره علي عباد الله وتوزيعه عليهم؛ ولقد قسم الناس” خلق الله عز وجل ” إلى ثلاثة طوائف؛ يقول :
( أشرقت الأرض بنور ربها وبدأت خيوط الشمس تتسلل من خلال الأفق لتنشر الضوء على عباد الله الذين ينقسمون في صحوهم إلى طوائف ثلاثة :
طائفة تصحو مع شروق الشمس ، وطائفة تصحو بعد انتصاف النهار ، وثالثة تصحو عند حلول المساء ، ومن ضمن الذين يصحون مبكراً “الديداموني العربجي” وكان جلفاً بحق ، سليط اللسان ، كظيم الوجه ، قاسي القلب ، تتبدى قسوته مع أهل بيته – زوجته وأولاده – يزأر بصوته الأجش زاعقاً فيزلزل أركان بيته الآيل للسقوط فيصيب الفزع قلوب الجميع ، ويكون أكثر قسوة مع حصانه العجوز الذي يجر عربته الكارو ذات العجلات الأربع.
وتتبدي هنا جماليات السرد وواصفاته الرامزة البديعة؛ عبر لغة تخش إلى الروح بهدوء كنهر يرجرج المشاعر؛ ويستدر العطف والشفقة لمنظر القسوة وتعامل ” العربجي” مع هذا الحصان العجوز الذي يتحمله – طوال الوقت – ويحمل فوق ظهره ” علي العربة الكارو ” ما لا يطيقه كذلك.
كما يصور لنا حياة الفقر والجوع وغياب الثقافة التي تهذب الأخلاق؛ عبر جمل مكثفة كقوله عن تعامل ذلك العربجي الذي يمثل ” السلطة” مقابل الأسرة التي تمثل الشعب أو المجتمع؛ وتنسحب إلي كل الوقائع المشابهة للظلم غبر كونية العالم المعيب؛ الضاج بالصراخ وتحكم القوي في الضعيف؛ والعني مع الفقير؛ ومن بيده الكلمة العليا على المجتمع مع “الغلابة ” من البسطاء؛ يقول : ” يزأر بصوته الأجش زاعقاً فيزلزل أركان بيته الآيل للسقوط” فقد لحصت هذه الجملة الواقع المعاش الذي يحياه عامة المصريين من جوع وعوز؛ فكيف لا يجوع الحيوان كذلك؛ بل ويبدأ في رحلة التمرد علي الواقع؛ والثورة على حاله غير المريح ؟! .
لقد استطاع محمد الحديدي عبر سرده المقتضب المكتنز أن يصور واقع القسوة المجتمعية؛ وتعامل الناس مع بعضهم من خلال معاملة العربجي لأسرته من جهة؛ ومعاملته للحصان من جهة أخري؛ لتنسحب القسوة والعنف على كل مفردات الحياة ؛ يقول : ( يلهب ” العربجي ظهر حصانه العجوز بالسياط ، ويحرمه من تناول الماء والعليق في معظم الأحيان ، حتى أصاب الهزال جسد الحصان العجوز المسكين الذي لا حول له ولا قوة؛ فيتحمل فوق عبء القسوة عبئاً آخر من الجوع والعطش
إلا أنه دائماً ما يبعث برسائل الضيق والضجر من هذا الجلف ويعلن عن رغبته في الخلاص من هذا القيد اللعين ، فيدق الأرض بحوافره مبعثراً كل ما حوله) .
ولعل الحديدي يقارن بين البشر هنا، فالعربجي يعامل الحصان بقسوة بينما الحصان كان مملوكًا لمركز الشرطة؛ ولما كبر صدرت الأوامر بإعدام الحصان المريض العجوز ؛ لكن الصول سرور أشفق على هذا الحيوان الضعيف الذي طالما ركبه؛ فقد أسماه ” محبوب ” وظل وفيًا للحصان ، فقام بتهريبه وبيعه ؛ثم أخذ النقود ووضعها في قسم الأمانات بقسم الشرطة الذي كان يعمل به؛ وأخبرهم بأنه وجد النقود حول حظيرة الخيل، وبهذا أنقذ حياة ” محبوب ” ؛ لذا فإن الوفاء والمعاملة الطيبة للحصان جعلته عندما رأي الصول سرور يهتاج ؛وكأنه يتذكر قوته وشبابه ؛ فرأيناه يرفض الإنصياع إلي العربجي الديداموني؛ الذي كان يقسو عليه دومًا ويضربه بالسوط .
وتأتي اللفتة الإنسانية الجميلة فبمجرد أن أشار إليه الصول ليذهب مع العربجي أطاعه الحصان على الفور؛ وتلك هي الطاعة التي تقابل الوفاء والحب؛التي أنتجتها المعاملة الحسنة حيث كان يلقمه قطع السكر دليل المحبة؛ ويربت على ظهره بحنان وحب باديين؛ وهنا تنجلي الغاية السامقة من هذه القصة الإنسانية البديعة ؛ يقول :
( استعاد ” الصول سرور ” بذاكرته أياماً طوالاً انقضت في صحبة ” محبوب ” حيث أسماه ، كان حصاناً فتياً ، قوياً ، يأتي صهيله زئيراً إذا صهل ، تلهث الريح خلفه إذا جرى ، كم من ليالي الدوريات التي قضاها ممتطياً صهوته مبتهجاً ، فاعتنى به كل العناية ، واهتم به كل الاهتمام ، لم يكن يتخيل أن يراه هكذا متسخ الجسد ، ضعيف البنية ، تملأ الجروح ظهره وجانبيه؛
وسرعان ما جاءته الإجابة على سؤاله من داخله:
.(أنت لم تفعل غير الصواب يا سرور-
فحين صدرت الأوامر بقتل محبوب رمياً بالرصاص ، قام الصول سرور بتسريبه وأثبت مقتله بالدفاتر فقط ، أما في الحقيقة فقد باعه وأودع ثمن بيعه بخزينة الأمانات بعد أن حرر محضراً بعثوره على هذا المبلغ في الفضاء الواسع المفضي إلى اسطبل الخيل.
ويطرح لنا المبدع الجميل / محمد الحديدي قصته على شكل مشاهد؛ وكأنه يجسد حياة الناس والبشر عبر تعاملاتهم اليومية مع البشر والحيوانات؛ والذات والعالم والحياة ؛ لكن تأبى ذات الحصان الذل والإستكانة لظلم الديداموني؛ فيثور عليه وينطلق إلى جدار المركز ؛ ليلقى حتفه بسبب قسوة وظلم الديداموني؛ يقول : .
( لما وصل الديداموني إلى بيته، فك قيد الحصان الذي لم يعد راسياً على حال بعد لقائه بالصول سرور فتارة يلطم الباب بجسده ، وتارة أخرى يدق الأرض بحوافره وقد لازمه صهيل حاد متواصل ، وفي الصباح يجر العربة الكارو بما عليها من أقفصة الخضر والفاكهة ، وكان الديداموني قد تجنب المرور من شارع المركز خشية أن يحدث مثل ما حدث بالأمس ، وعلى الرغم من زحام شارع المركز إذ تصادف أن هذا اليوم هو يوم سوق المدينة حيث يضج بالباعة والمارة وغيرهم من الطلبة والموظفين والسيارات ، إلا أن الحصان العجوز قد انحرف من إحدى الشوارع الفرعية رغماً عن أنف الديداموني الذي ألهب ظهره ، لكنه لا يعبأ بشئ سوى الوقوف أمام الأسيجة الحديدية المحيطة بفناء المركز ، ولما استقر في يقين الديداموني أن الحصان لابد أن يفعل ما أراد ، وضع عصابة سوداء حول عينيه فجن جنونه وتحول صهيله إلى ما يشبه الاستغاثة مما يفعله الديداموني وقد واتته قوة لم يشهد لها مثيلاً حتى أيام كان حصاناً فتياً وجرى رافعاً قائميه الأماميين تجاه الأسيجة الحديدية مزيحاً لفائف السلك الشائك بعيداً وسط ذهول الجميع ، وطار بجسده محاولاً تجاوز الأسيجة الحديدية الصلبة والعبور إلى الفضاء الملحق بمبنى المركز ، إلا أن قوته لم تسعفه ، فهوى بكامل جسده على رؤوس الأسهم الحديدية التي اخترقت صدره وقلبه وانسابت باقات الدماء المدرارة لتغرق الأرض مخلفة وراءها بقعة حمراء كبيرة) .
إن النهاية المفجعة قد أحدثت الكثير من الوقفات ؛ بما يجعلنا نشير إلى بديعية أسلوبية الحديدي؛ وجماليات سرده المكتنز؛ عبر لغة تطاوعه طوال الوقت؛ وصور يلتقطها من براح الحياة ليعيد تشكيل الكون والعالم من جديد. كما إنه يوقفنا أمام أنفسنا لنتأمل معاني : الحب والقسوة؛ العنف واللين؛ الحنان والبطش؛ ومن هنا كانت عالمية السرد الذي ينحو إلى قيم الفضيلة؛ وهو السرد الذي يخاطب الإنسانية في ذوات البشر، في عصر تحجرت فيه القلوب؛ فهو يدعو إلى الحب عبر مدينته الفاضلة الخاصة؛ الجميلة ؛ والمائزة؛ لعل أذنًا تسمع؛ أو قلبًا ينبض بدمٍ عاشق؛ لا بدم يُهرق الحياة عبر مشهد الحصان المقتول !! .
إن القاص / محمد الحديدي يعيد تأسيسية جمالية القصة الكونية العالمية التي تنفتح علي المعطى الإنساني في كل زمان ومكان؛ وتدعو إلى الرقي؛ والرفق بالحياة .