حاتم عبدالهادي السيد يكتب :الشعر وسيمولوجيا الإبداع الجديد

حاتم عبدالهادي السيد يكتب :الشعر وسيمولوجيا الإبداع الجديد
العامية أدب الشعب ؛ ولقد ظهرت ارهاصات ” قصيدة العامية المصرية مبكرًا “؛ حيث كانت – الآن – تتغيا التراث، كوسيلة تعبر بها إلى الحداثة وتشكلاتها المتلاحقة؛ لذا وجدناها تنزع إلى محاكاة اليومى والمألوف والعادى الحياتى ؛لتصل إلى قلوب الناس سريعاً؛ كما اتخذت من التراث الشعبى متكئاً – فيما أحسب – لتدخل إلى عالم الإجناسيات الجديدة؛ أو الأنواع الأدبية، كى تتجنب النزاع بين كونها جنس أدبى ، أو أنها تندرج تحت مسميات ” النوع الأدبي “؛ او القصيدة اللهجية؛ أو قصيدة ” النوع النووى” – الذى أصطلحه للشعر؛بكافة أشكاله : العمودى، التفعيلى، النثرى؛والذى يتشظى؛ وينشطر ليظهر لنا كافة وأشكال التحديث عبر اجناسية الشعر الجديد؛ والذى ظهرت الحاجة إليه؛ ليخاتل؛ ويماهى”جفاف الواقع”؛ بعد طغيان الآلة،وعالم التكنولوجيا ” وليعيد تشكيل الهوية؛ والذائقة، لشعرالعامية المصرية، ورفدها بفنيات أكثر براحاً من قيود كثيرة ” .
ولعل أهم ما يميز هذه القصيدة العامية هو وصولها ببساطة إلى قلوب الجماهير لأنها تتحدث بلهجتهم التي يتكلمون بها؛ ويفكرون من خلالها ؛ مضيفين إليها بلاغة اللغة الفنية؛ واقتصاديتها المائزة، عبر” معيارية التصوير” – فهي قصيدة تتقصد الكتابة بالنثر عبر اللهجة، وتندغم مع التراث الشعبى كجذر رئيس لتشكيل الذائقة الفنية وكونيتها، كذلك يجب اعتبارية التدوير، والإنزياح، والتماثل، والتناص ؛ والنثر الممزوج بالحكاية هو جوهر مشروعيتها، وبنائيتها؛ عبر تنوع أشكالها أيضاً ؛ وتلك ؛ وغيرها – كما أحسب –تمثل “وسائل ردع تمايزية”؛ للتفريق بينها وبين الكلام العامى العادى،أو لغة العامة؛ فهى تتقصد العامة، لكنها ترتفع باللهجة بفنية تراثية؛ وبمكملات بلاغية، وصورة تمتاحها عبر الذائقة الشعبية؛ وسياقات التناص عبر المخيال الشعبى؛ وبذلك نخرجها عن” النثر الفنى العادى ” ؛ ومن هنا ظهرت قصيدة النثر العامية كذلك . وعن كونية اجتماع النثر والشعر في التسمية، بين لفظة نثر وشعر؛ ولعلنا لن ننزلق لمجاهيلية التسميات ” كقصيدة النثر الفصيحة ” في تسميتها ” بالنثيرة ” ؛ أو ” النثر الجديد ؛ – حتى وإن اتفق النقاد – فيما بعد على اعتباريتها ” النثر العامى الجديد”؛ لكنها – فيما أرى – تزهو وتسمو فوق الكلام اللهجى العادى؛ بل ترتفع بالذائقة الشعبية، لتحدث المثاقفة من باب؛ ولتجنح نحو التنوير، ولتعيد تأسيس الذائقة؛ والمخيال الشعبى اللهجى، العامى، على أسس فنية ، من باب آخر؛ وتلك – لعمرى – غائية تُثَمَّن؛ ومقصدية تُحْسَبْ لكُتَّاب هذا الإبداع الأدبي . ودعونا نوافق على ادراجها ضمن الأنواع الأدبية- وأقصد قصيدة النثر العامية – كيما تكتمل رؤاها؛ وتثبت غائيتها، فنحكم حينها بالإجناسية الجديدة؛ أو بإندراجها في خصيصة النوع الأدبي، أو ” النوع النووى ” الذى يتضمن العديد من الأشكال الفنية لكتابة الشعر بصفة عامة؛والقصيدة بصفة خاصة؛أى لنشير بكونيتها ” كقصيدة تشكَّلت من رحم الشعرية العربية،ومن رحم التاريخ التراثى الشعبى؛ لفنون العامية؛ والزجل كذلك؛ وفن الشعر الساخر؛ والمنتقد للأوضاع المجتمعية، والذى يتغيا استنارة الشعوب – غير المثقفة -، ويتغيا التراث الشعبى، ومورثاته، وعمقه الضارب في الأصالة والعمق ؛لتاريخ وحياة الشعوب ، في كافة أقطار الكون ،والعالم ؛والحياة .
ولعله تبقى اشتراطية لمن يقدمون على كتابة هذا النوع الأدبي؛ فيجب معرفتهم التامة بقواعد العروض التفعيلى؛ وليعبروا منه إلى القصيدة ؛ كى يتم القبض – من جانبهم – على فنيات الكتابة من جهة؛ وليسقط حينئذ الإستسهال ؛الذى قد يبدو لكثيرين في مسألة كتاباتها، فهى ” ككتابة فنية : “معقدة،وصعبة جداً ” لأنها تماهى، وتمازج بين ” لغة الشارع” أو ” لغة الشعب “؛ لدى المواطن العادى، عبر تعدد لهجياته، وتطورها من الشفاهية إلى الكتابية؛وبين كونيتها كقصيدة تخاطب”الجمهور الشعبى”؛ من العامة والخاصة؛ ولنفرق بينها وبين مقصدياتها الفنية وضوابطها،وقصدياتها،وتشكيلاتها – كذلك – في الأنواع الأخرى؛ ولنا في ” أغانى وقصائد الراب ” المثل الذى نتوسل به؛ وإن لم يوافقنى الكثيرون – في الإرتفاع بالذائقة الشعبية؛ولكن لابد من قاعدة عربية يعود إليها أصحاب هذه الأغانى الجديدة كذلك؛ كى لا نقع في فخ ” تغييب القيم “؛ وفى ” فخ التآمر على الفصحى”، والهوية،وتلك لعمرى تهم جاهزة يخرجها المتشددون من النقاد الأكاديميين؛الذين لا يستسيغون ما بعديات الحداثة؛التى وإن تغايرت عن الذائقة الإعتيادية؛ إلا أنها أصبحت موجودة؛ ولا يمكن تجاهلها في تشكيل الوعى المجتمعى،ولو لشريحة خاصة؛ لكن الأدهى – بالنسبة لقصائد الراب – إنها استهدفت شريحة الشباب،وهى تستهدف ذلك- دون وعي؛ او بوعي غربي مغاير لثقافتنا وقيمنا العربية، لذا لزم القيام بتوجيه كتاب ” قصيدة الراب ” لمراعاة القيم والهوية، ومرتكزات الأديان، أو لنقل أخلاق المجتمع، أو مراعاة : ” الذوق العام ” ، مع أن الفن بالعموم لا يركن إلى ذلك ؛ ولكن أقولها لهم إن أرادوا استمرارية ؛لما ذهبوا إليه ؛كذلك؛ أو في بدايات هذه المرحلة الجديدة؛على الأقل .
إذن فقصيدة نثر العامية موجودة كذلك، شاء البعض أم لم يعجبهم وجودها، وقد انتشرت، وتم طبع مئات الدواوين التى غمرت الأسواق، وتلقفتها أيادى العامة؛ وأصبحت واقعاً رغم أنف النقادة المتشددين الذين لا ينفحتوا على كل ما هو جديد، ولنترك للزمن أن يقول كلمته، أو لتسقط من عرش الشعرية العربية كذلك .
لقد بدأت قصيدة النثر العامية في السبعينات، وأوائل الثمانينات، وانتشرت بالتوازى مع وجود قصيدة النثر الفصيحة أو بعدها بعقد؛أو أقل؛ أى أنها موجودة فيما يربو على النصف قرن؛ وهى مازالت كذلك – كما أرى – في طور التشكل وبلورة الرؤى – ولنا أن ننتظر لنضع لها الأطر؛ ولنحدد لها المقاييس؛ والهوية؛ وإن كنت أراها قد قاربت جداً طور النضوج التام؛ فهى موجودة، وقد بدأت ارهاصات وجودها عبر المسرح في كتابات :ميخائيل رومان، وألفريد فرج؛ وغيرهم ؛ وكذلك عبر الذين كتبوا المسرح النثرى؛ وكانوا ضمن شعراء العامية كذلك ؛ وهم قليلون ؛ لكنها ارهاصات البدايات، والشعر الجديد .
ولقد لاقت قصيدة النثر العامية قبولاً ما ؛ على مضض؛ إلا أن ريادتها كانت خاصة لدى الشعراء المصريين؛ وأولهم الشاعر الراحل / مجدي الجابري؛ ولعلنا لن نغفل الكثير من الشعراء الذين راوحوا في أعمالهم بين الأشكال العامية المطروحة على الساحة : الزجل،التفعيلة،النثر،الشعر البدوى،وأشكال أخرى استلهمت السير الشعبية والتراث،كفن الواو ( النثرى )، وفن ” النميم “؛ وغيرها من الأشكال التى غاصت في عمق تكوينية القصيدة؛ وفنياتها عبر الموضوع كفن الموال، والتواشيح الدينية، وكُتاب فن الربابة، وسيرة أبو زيد؛ والأيرة ذات الهمة، والزير سالم؛ وجسدوا الشعر عبر ” الحكاية الشعرية .
ولعلى هنا أرد على أحمد شوقى؛وطه حسين عبر مخاوفهما على القصيدة العمودية من الشعر العامى ؛ ونقول لهما : لا تعارضية إطلاقاً بين هذا، أو ذاك، ولكل توجهاته، وغائياته، وقدراته، بل وفلسفته التى تعكس حاجة المجتمع، ولترتفع بذائقة الشعب، وتعيد مثاقفته، وتنويريته المتغياة ؛ كما نجيب عن السؤال الذي طرحه د.غالي شكري منذ سنوات طويلة، حين قال : لماذا اختار شعر اء العامية إيقاعات التفعيلة، وأحجموا عن إيقاعات النثر؟ أو : لماذا لم يبدعوا ” قصيدة النثر العامية ؟! . ونحن نقول له بكل ثقة واطمئنان : ” لقد أبدعوا ؛ وخاضوا التجربة، وتشكلت رؤاهم؛ أو قاربت على الإنتهاء، والتبلور؛ لنستشرف لها بالتنظير؛ بعد أن شبعنا من التحليلات؛ والرؤى التطبيقية ؛ وآن لنا أن نضع منهاجية لتحولاتها، ولنعلن عن” وجودها القوى؛ وأشكالها التى تتراوح بين العامى والمألوف، والعادى، والحياتى، بل والترميزى، والمتغاير، والمتساوق مع الأشكال الجديدة، ومع قصيدة النثر الفصيحة كذلك” .