ثقافة و فن

ثنائية الغياب والحنين كملكٍ يستعدُ للرحيل ..” قراءة رومانتيكية “

ثنائية الغياب والحنين كملكٍ يستعدُ للرحيل ..” قراءة رومانتيكية ”

حاتم عبدالهادى السيد

” وجه الرحيل ” ، اسم لديوان جديد للشاعر  أحمد عبدالفتاح، ذلك الشاعر الذى تفاجئت به، فأيقنت أن الشعر لازال بخير، وأن هناك من يصنع الأصالة بصبغة المعاصرة، ويعيد للرومانتيكية العربية أوج جمالها العتيق، في عصر طغت فيه المادة على كل شىء، وأصبح الأمل غير موجود، والحلم مخنوقاً على عتبات الغياب، لكننى وجدت في هذا الديوان تجديدية – ربما لم أجدها عند كثيرين – وإلماحات إلى تواصل الأجيال الإبداعية، ولكنه تواصل الملوك مع الإمراء، وتواصل الكبار مع الشباب،وتواصل الأصالة مع المعاصرة في إتقان جميل، وفرادة تدعونا إلى كشف اللثام عن وجه الرحيل، لنعيد زمن الرومانسية العربية الأصيل، ذلك الزمان القديم لذى تجسَّد فيه الحلم، وتأصلت عبره الإرادة والإصرار ؛ للولوج من شرقة الماضى إلى الحاضر المشرق الجميل، وكأنه يصرخ فينا، في ذاته، في الكون والعالم قبل الرحيل، ليترك بصمته الشاعرة على الوجود ،والقارىء ،والمجتمع، والعالم، والحياة .

ولعمرى فإن شاعرنا / أحمد عبدالفتاح يعيد لنا زمن العقدية في الأدب، وما كان في العصور الأدبية الزاهية، وكأننا في الستينات الباذخة، والسبعينات الشاهقة، وفى الألفية الجديدة المتماوجة بالحداثة، ودخول الشعر إلى مزالق جديدة، ومابعد حداثة النظريات التى أطرَّت أيديولوجيا مفارقة، وهو في كُلٍّ يساوق كل ذلك، بل يتخطاه ليعيد انتاجية الجمال الرومانتيكى للقصيدة العربية بعد أن غابت عبر جفاف الواقع، وسطوة الحياة، وضبابية الرؤى . لكنه – بهدوء – باذخ؛ رأيناه يقدم قصيدته بصورة متناغمة، كموسيقا تعزف على أرغول الماضى، لتعيد انتاجية الحاضر؛عبر لغة تمكيج الروح، وتهيأ وجه الشعر / العروس لحفل جديد، نحتفل معه ، ونثمِّن تجربته الرائدة، ونزفّ العروس/القصيدة للزمن الآنى،لتعيد تشذيبه؛عبر جماليات الصور والظلال الهادرة من شلال روح محبَّةٍ ؛ باذخةٍ، شاهقةٍ ، وجميلةٍ أيضاً . لذا لا غرو أن يُصَدِّدرَ ديوانه ببيت الحب الشاهق، الذى يدلل إلى جوهر الشعر المتوقد، فنراه يقطف لنا الشوق الدافىء المتوقد، المضىء، والنارى/ النورانى كذلك، ويَخُشُّ بنا إلى فؤاده ، روحه الباذخة لننهل منها عناقيد الحب ، وحمرة الخجل، وأدب التصوير، وجماليات الحرف، يقول :

يتوقد الشوق الدفين بخافقي كي لا تبوح بذكره شفتاي

فذاته غدت عجيناً كونياً لطحين الشوق بداخله،لكنه لا يستطيع البوح،فقد غافله الوقت، وأطل ” الرحيل “، لذا يجأر في الداخل / الذات، ويصنع الجمال للآخرين ، وحمرة الخجل تقفز من وجهه العاشق المحب، الذى لا يستطيع الإفضاء، فقد غادرت المحبوبة، ولاح شبح وجه الرحيل المباغت .

إذن هو شاعر عاشق حتى النخاع، عاشق للوطن/ المحبوبة/ الحياة، ولكل ما هو جميل ينير الطريق للحب، لذا رأيناه يعيد عربة الذكرى عبر ” سيدة الميدان ” : / مصر / بنى سويف / القرية / نهر الحب الظامىء لها؛في كل زمان ومكان، يقول :

الليلُ طويلٌ سيدتي ../ وأنا أتململُ بين لهيبِ الرغبةِ .. /والحرمانْ ، /أتسمَّع صوتَكِ في أذني ..

أتحسّسُ عينيكِ الصافيتين ..

ثم يقفز بنا من شبق المحب العاشق،إلى المبانى والدور والمناظر الخلابة، كالمتأمل الذى يتمرأى بوجه محياها الجميل، يجالسها وينظر في عينيها، ولا يستطيع البوح، وكأن الكلام تَجَمَّدَ في شفتيه من مرأى جمال المحبوبة، وكأنه يماهينا بذكر الدور والمبانى والميدان، ليتغزل بها،معها، ويخاتلنا ، فهى : “الوطن ” لديه؛الذى يحج إلىه عبر كعبة عينيها المقدسة، المتلألأة مع النيل، و ذلك – لعمرى – خجل الريفى – المؤدب – وسموقه؛ حين يريد البوح، فيماهينا بالحديث عن الوطن، ويخش إلى عينيها منفرداً،يتغزل في صمت العاشق ، دون أن ينظر إليه العوازلُ، والمتلصِّصُونَ على الحب ، يقول :

وأمامَ المائدةِ الممتدةِ ../ كان حديثُكِ غضّاً .. رطباً ../وأنا .. / أترقّب وجهكِ ../خلفَ دخانِ القهوةِ في الفنجانْ ، في أمسيةِ الشعرِ الأولى ../كان حضوركِ يحجبُ ../ كلَّ جموعِ السادةِ والوجهاءْ ، /كان حديثُكِ أشهى .. / من إيقاعِ الشعرِ ../وقوافي الشعراءْ ./كان الوقتُ يمـرُ ..تحينُ اللحظةُ كي تمضي ../ويحينُ رحيلُكِ عن يومي ../عن ساعةِ عشقٍ أبديّ ../ مُؤذِنةٍ بفراقِ الأبدانْ /فانطفأتْ أنوارُ الميدانْ .

إنه العشق الشهى، وهو أمير العشق، وملك ناصيتها، يستحوذها، ليحوز بَسْمَةً من ثغر اللؤلؤ، أو كلمة من سيمفونية شفتيها الصادحتين بالعبير والياسمين، لكنه مع كل ذلك يصف المشهد عبر صورة بصرية، ويجسده دافقاً،فندخل معه عبر الصور التى يستدعى فيها الإشراق،والتى ترسم المكان،وتنمِّقُ المشهد،عبر فطرة وصور بسيطة،رائقة؛ لكنها عميقة،ورامزة،ودافقة في الروح كالهدير. وشاعرنا هنا؛ لا يكتف برسم لوحاته التشكيلية؛ بل يفلسف الواقع، ويقدم خبرته عبر التكثيف للمعنى،والتَّقْصِيدِ للصور المائزة،عبر ابيجرامات الجمال في قصائده التالية : الحقيقة، اشتهاء، لحظة اشتهاء، براءة، ولعله أراد بهذه الإبيجرامات أن يقدم خلاصة تجارب الحياة لديه، أو أنه أراد أن يخبرنا بقلقه الوجودى، عبر رحلة البحث عن اليقين، الحقيقة التى يتغيَّاها ، ويبحث عنها قبل أن يحين الرحيل، الذى أطلَّ وَجْهَهُ ، عبر بوابة الديوان / الحياة، يقول :

الحقيقةُ واحدةٌ ../غيرَ أنَّ الوجوهَ التي تَتَلبَّسُها .. /عدةٌ ./فمَنْ يملكُ الآنَ آخرَها ؟/مَنْ يَسلكُ الدربَ نحوَ الوصولْ ؟/ عندها تستحيلُ الحقيقة /واجهةً للسؤالْ .

إنها الأسئلة الكبرى،لِمُتَصَوِّفٍ عبر الذات، تصوفٌ خاص،وفلسفة يتفرد بها عبر رحلة البحث الكبرى في الحياة القصيرة،فلا أحد يملك الحقيقة، إذ هى تتلبَّسُ الذى يتغياها،وتخاتله ليهرب،فمن أراد الوصول غاب في السؤال،ولم يدركها،لأن وجه الرحيل، وشبح الغياب قد ظهرا،وهو الباحث عن الحقيقة / المحبوبة / القصيدة / ذاته المُوَزَّعَةُ عبر الحب والإيمان،والتَّوق إلى أزليتها، سموقها، حيث الله هو الحقيقة الكبرى المُتبَدَّاةُ،وهى فلسفة تظهر وتختفى، وصوفيةٌ يحاول اخفاءها،عبر رحلته، وخجله حتى في وجوده مع المحبوبة، وجلوسه معها في أيكة القمر الجميل، لذا رأيناه يفلسف الوجود عبر ” لحظة اشتهاء ” ، يتشهَّى الوجع في بُعادها، وهو العاشق، ويترقب وهو معها ؛مذعوراً من مجىء الغياب، يقول :

هل تنسجين الآنَ ظلاً من خَواءْ ؟/ ماذا تَبقّى من عذاباتِ السنين ؟/ شبقٌ ../ووجهٌ غائرٌ فيه انتظارُ اللارجــوع / لم يبقَ غيرُ الاجتـراءْ ،/والليلُ .. والسكونُ .. والأضواءْ ،/وأنتِ ترقـبين لحظـةَ اشتهــاءْ .

إنه العاشق الأخير، الحزين الذى لم يتلق الحب في الغرف المقفلة، لكنه تعرَّى وحيداً في صحراء الحلم ، يجأر ، ونزعق معه؛ في بَرِّيَةِ السكون والصمت بأنشودة العاشق المذبوح على حافة الحياة الشهية/ التى يكسوها الضباب والحرمان، وتعلو على نوافذها خيوط العنكبوت، ومرارة الحرمان .. يظل شاعرنا / أحمد عبدالفتاح شاعراً شاهقاً ، يغزل روحه على مغزل الحياة الرهيب ، ويقدم رأسه على المذبح ، فتسيل دماء الحب ، طاهرة، وشاهدة على عشقه الأبدى ، وقسوة الحياة أيضاً .

حاتم عبدالهادى السيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى