الرواية الكونية البدوية
الرواية الكونية البدوية
كتب :حاتم عبدالهادي السيد
يستخدم الروائى عبدالله السلايمة تقنية “الفلاش باك” بمهارة فائقة تضفى واقعية سحرية على أسلوب السرد الروائي، وربما تحيلنا الى معادل ضمنى لجاذبية السرد التى تجعل القارئ يتلهّف الى معرفة التفاصيل الكلّية، وكلما ازدادت الأحداث سخونة نراه يحكم من استخدام هذه التقنية الدّالة ليحيلنا الى تفاصيل أكثر إحكاماً، فهو يوهمنا بالسرد ليستبدل بأسلوب الحكاية الرشيق نمطية الأسلوب المعتاد ـ وتلك لعمرى ـ مكمن مهارة الكاتب، كما نلمح بلاغة الحذف والاختصار، وميله إلى أسلوب الحوار والجمل القصيرة الدالة، وتلك دربة عارف بتفاصيل السرد المكتنز ، كما نراه يستبدل الراوى الحكّاء بأسلوب الاستدعاء الذهنى ” للمخيال الحدسى ” عن طريق الفلاش باك المتكرر الذى يستخدمه بطلا الرواية “ضحى” و “عارف” وهما الشخصيتان الرئيستان فى الرواية، وما من موقف أو حدث أو حوار بينهما إلا ويستدعى الكاتب تلك التقنية، ليحيلنا الى ما أسميه : ” دوائر السّرد الضمنيّة” التى تضفى على النص سحراً يدلّل الى امتلاك الكاتب لأدواته من جهة، وربما لتحجيم دور”الراوى العليم ” ، أو السارد الذى يجيء كمتلازمة للسرد الروائى ، وتلك خصيصة تميّز السرد وتبعده عن الترهّل أو الاستسهال، كما يعدّ وسيلة لجذب القارئ وعدم شعوره بالملل ، اذ تؤدى هذه الجزئيات التى ينقلنا اليها الى التفاتات واشاريات تزيد من اكتنازية السرد وتبعده عن الحشو، رغم أنها تدخل الى أدق التفاصيل فى الوصف المكانى أو الزمانى، ورغم ذلك يشعر القارئ بأريحية لالتقاط أنفاسه لاستكمال مسيرة الأحداث المتتابعة.
هذا تقنية الفلاش باك – كما أزعم هنا – تقترب ممّا يعرف عند نقاد الشعر بظاهرة (الالتفات) : وهى الانتقال بالقارئ من حدث الى أحداث متغايرة، ثم الرجوع بعد ذلك لاستكمال مسيرة السرد لإضفاء روعة مغايرة، أو لسرد أحداث من شأنها استكناه الذات لسرد تفاصيل حكائية تستدعيها الأحداث ، وكل ذلك يجيء فى صالح السرد واكتنازيته من جهة، وحتى لا يشعر القارئ كما أسلفنا بالملل من جهة أخرى، يقول :
( لم تكن تعرف أنني فكرت بدوري من قبل أكثر من مرة، لكن ليس بنفس حماس هذه المرة، بان تلك الحجرة الحقيرة التي أقيم فيها، لا تناسب غير شخص ينتظر الموت، ولأن هذا الاحتمال لم يرد في ذهني بعد، قررت أن أبحث عن شقة تناسبني، حماس دفعني للتفكير بشكل جاد فى بيع ما ورثت عن أبى من أرض في”البحيرة”، وشراء شقة في أحد أحياء”القاهرة”، والعيش فيها بشكل نهائي، وراقت لي الفكرة كما لم ترق من قبل، خاصة أن هذا القرار يلاقى استحساناً من الجميع، فأخواتي الثلاث قد تزوجن من أقاربهن، واستقرت كل منهن حيث يعيش زوجها، أكبرهن في ” البحيرة”، وما لبثت الوسطى أن لحقت بها، وتقدم أحد أبناء عمومتي في”العريش” لطلب يد أختي الثالثة من زوجة أبى الحنون، التى كما قالت لم تجد سبباً وجيهاً لبقائها بعد وفاة أبى ذات مساء بشكل مفاجئ، ولن تحتمل قسوة فراق ابنتها الوحيدة.
وشعرت بارتياح كبير، وبامتنان خفي تجاه”ضحى”، التي كانت سبباً في اتخاذي لهذا القرار، شعرت بألفة غير معلنة بدأت تنشأ بيننا ، “آه.. لو أمكنني معرفة ما يدور برأسها الآن “.
اختلست إليها نظرة، لاحظتها تهز وركيها بشكل ينم عن توتر شديد، وضغط أصابعها القوى على حافة مرتبة الأريكة يكشف عن أفكارها الشريرة، اعتمل في صدري شعور بالشفقة، همست بداخلي:”يبدو أن الأمور السيئة لا تحدث إلا للأشخاص الطيبين “.
وفى محاولة لانتزاعها من أفكارها، حدقت في عينيها العسليتين مباشرة، وفيما كانت تراودني الرغبة في أن أذيبها في حضني، قلت لها بصوت حملت نبرته الكثير من المواساة:”عليك ألا تشقى نفسك، فما حدث لا يستحق الاعتذار”
رمقتني بنظرة مستفهمة وقلقة، شعرت على إثرها كما لو كانت قد اخترقت قلبي، فقلت لها بنبرة نجحت إلى حد ما في تبديد بعض تشككها في صدقي:” قدرنا أننا ننتمي لمجتمعات لا تؤمن بحقنا في أن تكون لنا حياتنا الخاصة ”
وبينما كانت تقلب ما قلته في رأسها، فاجأتها على نحو غير متوقع بقولي:” لتنسى ما حدث، وما أريده منك الآن أن تطهري رأسك من أفكارك الشريرة”.
استرخت قسمات وجهها لترسم ببطء شديد على شفتيها ابتسامة ذابلة، وبتكلف أثار قلقي، ما دعاني للتخلي عن تحفظي والاقتراب منها، لحد أن أنفاسي الملتهبة كادت تفقدها تركيزها، قلت لها وأنا أحدق إلى عينيها العميقتين: بأنني سأتناول عشائي في الخارج، وسألتها إن كانت تقبل مشاركتي فيه. واحتاجت”ضحى” لبرهة من الوقت كي تبدى موافقتها ) .