عبقرية الرواية البدوية المعاصرة
عبقرية الرواية البدوية المعاصرة
كتب : حاتم عبدالهادي السيد
لقد رأينا تشابك الذات الساردة “لضحى” في رواية صحراء مضادة للروائي السيناوي عبدالله السلايمة من خلال حالتها: الخائفة، المرتبكة، الحذرة، المذعورة كذلك، فهى تنام فى شقة فتى غريب عنها، ورغم أنه من مدينتها كما شاء قدرها بذلك، إلا أن فورة الشباب قد تدفعه لارتكاب حماقات مريبة، الا أن قيم البداوة تمنعه من ذلك من صميم الواقع البدوي، ومع أن تداعيات الأحداث ـ الموضوع ـ قد فرضت عليه أن تجلس معه فى شقته الا أن ذلك قد حدث ربما شفقة منه لحالها، أو أنه الحب من أول نظرة، أو هى صفة إنسانية طغت على سلوكياته تجاهها، أو قد استهوته المغامرة ليكملها حتى النهاية، ومع ذلك نرى تسلّل حبها الى قلبه بشكل لم يخطط له من قبل .
تتسلل بعض الأمكنة العرضية في الرواية لتكشف عن تفاصيل أخرى للذات، أو لشخصية البطل “عارف” مثل هروبه وتنقّله بين مدن ” الأردن”. بعد فرار أبيه إلى ” مدينة العقبة ” قبيل حرب النكسة عام م1967 إثر إقدامه ـ كما اعتقد ـ على قتل شريكه في تجارة ترويج المخدرات، ومن ثم لحق ” عارف” وأخته به فيما بعد، ليجد نفسه بدوره مجبراً على الهروب والتنقّل بين مدن الأردن فى محاولة منه للخلاص من قسوة أبيه، و خشونته فى التعامل معه ، ومع والدة عارف من قبل.
كما يعرض الكاتب لهجرة والده إلى محافظة “البحيرة” بريف مصر كباقي المهجّرين من أبناء سيناء الذين أجبرتهم حرب النكسة الى الهجرة الداخلية فى مختلف محافظات مصر، ومع أنه لم يقف كثيراً عند هذه المدن، إلا أن مجيئها قد كشف كثيراً من جوانب شخصية “عارف” وتكوينه الصحراوى/الريفى، ومع أنه لم يعرِّج بنا الى تفاصيل المكان فى سيناء، إلا أنه تعرض لذلك خلال مشهدية ” ضحى” وفرارها من تقاليد مجتمع البداوة فى سيناء، ومن خلال حديثه مع صاحب الشقة الذى وجد نفسه مجبراً على استئجارها، ليس فقط ليتخلص من شقته الحقيرة التى كان يقيم بها، “ولا تناسب غير شخص ينتظر الموت”، بل بسبب انكشاف أمر”ضحى” أمام سكان البناية بعد محاولتها الانتحار بقطع شريان يدها كما أسلفنا، وتلك مهارة كاتب لم يغلّب وصف المكان على موضوعية الأحداث، بل جعلها تأتى على لسان صاحب الشقة الذى استدعى هو الآخر ذاكرته ـ من خلال تقنية الفلاش باك ـ عندما عرف أن “عارف” من سيناء، فبدأ يسرد عليه الرجل بعض تفاصيل حياته حين كان ضابطاً يخدم فى الجيش المصرى بسيناء فى الفترة من (1967 ـ 1973م ) وهى الفترة التى تعكس هزيمة مصر ومن ثم انتصارها على المغتصب الصهيونى ، يقول فى حواريته :
( جئت بشأن إعلانكم عن تأجير شقة، فدعانا إلى الدخول ، وما أن جلسنا في الصالون،حتى راح يتحدث باستفاضة عن أمور شخصية لم تكن تهمنى في شيء، إلا أنني أمام بساطته وجدتني أتعاطف معه، وهو يشير إلى صورة معلقة خلفه على الجدار، ويقول في حسرة واضحة:” آه.. لقد ولت أيام المجد “، تأملها للحظة، ثم أشار إلى صورة أخرى، ظهر فيها يقف بين مجموعة من زملائه الضباط، هم يرتدون بزاتهم العسكرية:”التقطت لنا هذه الصورة في بداية السبعينيات”، صمت برهة، ثم أضاف بنبرة يشوبها الحزن:”عام 1972، قبل حرب أكتوبر بعام تقريباً .
وواصل يقص عليّ بعض أحداث الفترة التي قال: انها امتدت من قبل أيام حرب النكسة 1967 حتى ثأر من عدوه، واسترد كرامته في حرب أكتوبر 1973، فترة قال: أنه قضاها في سيناء خاصة شمالها، وفى “العريش” على وجه التحديد، حيث كان يعمل كضابط للمخابرات، وأنهى حديثه بالتأكيد على أن تلك الفترة كانت من أجمل أيام عمره ).
( الرواية : ص 54 )
كما يأتى التصريح بالمكان عندما ترك القاهرة ليذهب إلى سيناء لطلب يد”ضحى” من والدها قبل عودته إلى “عين شمس” مرة أخرى، ولقاءه هناك بأعمامه وجماعته، فالمكان وربما الزمان أيضاً يجيئان على هامش الأحداث ، وهو نوع من البراعة وتكثيف لغة الرواية ، وان جاءت كثير من أحداثها مستطردة، وتكشف عن كثير من التفاصيل المستدعاة، والمبررة كذلك.
( 6 )
هذا ومما يلفت انتباه القارئ ذلك التجديد فى شكل السرد، فعلاوة على الاستطراد والتداعيات إلا أن ترتيب أفكار بطلى الرواية، أو السيناريو الذى جاء عن طريق تراتب التخمين، أو فكرة الخلاص والموت من جانب “ضحى” ، وفكرة الحياة السعيدة الحالمة من جانب “عارف” بزواجه من ضحى، ووضع نهاية للأحداث المأساوية التى مرّت بها، وبالتالي إلغاء فكرة الهروب أو الانتحار لديها . أقول : رغم تراتب تفكير البطل “عارف” ـ حتى منذ لقاءه الأول بضحى ـ فى اختراعه لمبررات لحثها على الإفصاح عن همومها ، وكذلك تبريراته لذاته بأن ما يفعله هو الصواب منذ وجودها فى شقته وهو أعزب وشاب لم يتزوج بعد، وربما غرّر به الشيطان ليوقعه فى اللذة المحرمة، إلا أن استدعاءه لتقنية(المشهدية) و( تراتبية السرد) قد أعطى نوعاً ما من التجديد فى مسيرة السرد الروائى – وهذا يحسب له ـ على مستوى الشكل من جهة، وعلى مستوى ترتيب الذهن أو الأفكار سواء الشريرة من جانب “ضحى” لفكرة الانتحار، أو الأمل من جانب”عارف” للزواج بها واثنائها عما تفكر فى الإقدام عليه، ويأتي ذلك بما أدلل به (ص 75، ص 105 ) يقول :
كانت ضحى قد فكرت فى أكثر من طريقة لموتها :
الأولى : أن تشرب سماً، أو تلقى بنفسها من فوق سطح البناية، لكنها تراجعت على الفور عن تلك الفكرة، حين تذكرت إذا ما فعلت، سوف تعرضني للمزيد من المتاعب، فيكفيني ما لاقيته بسببها، وأن ليس من المعقول أن تكافئني على شهامتي معها، بتوريطي في المزيد منها .
الثانية: أن تلقى بنفسها أمام سيارة مسرعة تنهى حياتها في لحظة.
الثالثة: أن تعود لأبيها، وتترك له حرية اختيار العقاب الذي يناسب ما ارتكبته من جرم في حقه.
وراقت لها الفكرة الأخيرة تماماً، وشرعت على الفور في تنفيذها.
( الرواية : ص 75 )
والنموذج الثانى يؤكد للقارئ ما أطلق عليه : )انتظام تراتب مشهدية السرد أو تنظيم الأفكار من قِبل شخصيات الرواية) ، يقول :
( كنت قد ظللت حتى وقت متأخر من الليل أفكر في شكل لقائي بوالد ضحى، تخيلته في مشهدين :
المشهد الأول :
قابلته بمفردي، لم أتوقف كثيراً أمام ملامحه، فقد وصفتها لي ضحى من قبل بدقة متناهية، رحب بى فى البداية بابتسامة بعثت الطمأنينة إلى نفسي، لكن ما أن فاتحته بشأن ابنته حتى تبدلت ملامحه، بشكل ينذر بأن الأمر لن يمضى كما تصورت، ما جعلني لا أتردد في إنكار أي صلة تربطني بها، وأن كل ما فى الأمر أنني عثرت عليها صدفة في أحد شوارع”القاهرة”، عرفت بأمرها، وبدافع الغيرة عليها عرضت عليها أن ترافقني إلى منزل أختي، وهاأنذا جئت أزف إليه البشرى، لم ترق لي عبارة”عثرت عليها” في الحوار، فمن المؤكد أنها سوف تثير بداخله العديد من الهواجس والشكوك، تفادياً لذلك، وجدت من المناسب استبدالها بالقول: أن أختي بنفسها هي التي عثرت عليها صدفة، فيما كانت تقضى بعض حوائج البيت من السوق، وتصادف أن تبادلا أطراف الحديث، ارتاحت لها، وانتهى الحديث بينهما على أن قبلت ابنته دعوة أختي لاستضافتها، ومن ثم عرفت بقصتها .
المشهد الثاني :
زرت أعمامي، لم يزعجني في البداية لومهم لي على تقصيري في زيارتهم، لكن ما أشعرني بالانزعاج حينما تخيلت أن أحدهم ـ لم أستطع تحديد أي من ثلاثتهم في المشهد ـ يتدخل في شأني الخاص بشكل لا يحتمل،إذ حاول مرة باستدراجي ، وأخرى باستفزازي للكشف عن نواياي، حول ما إذا كنت أفكر بالزواج من إحدى فتيات العائلة.
ووجدتني متورطاً بالبحث عن إجابة ترضي فضوله، آه..فما أصعب أن تجد نفسك متورطاً في مسألة ما، ولا تعرف ما الذي ينبغي عليك أن تفعله، هذا ما لا يمكن تحمله، شعرت بضيق مفاجئ، بأي حق يسمح لنفسه بالتفتيش في نواياي، رغبت بشدة في أن أوقف تدخله السافر في شأني، لكن سرعان ما تراجعت عن وقاحتي المحتملة، حين تذكرت حاجتي الملحة إليه لتمرير مهمتي لدى والد ضحى ) .
( الرواية : ص105 )
ومما يؤكد ما ذهبت اليه فى أن الكاتب يهفو الى تحويل عمله الروائى المكتوب الى مرئى من خلال استخدامه بعض تقنيات السيناريو من القطع والحذف ، والسرد من خلال مشاهد متتابعة، أو مجتزئة، الا أنه ينجح باستخدام تقنية الفلاش باك السينمائية فى ربط أحداث الموضوع أو الرواية، فنراه بعد أن يسرد المشهدين والتأكيد على عبارات :(المشهد الأول)، (المشهد الثانى) وعبارات :(أولاً، ثانياً، ثالثاً ) على لسان”ضحى” أو فى مخيلتها الذهنية وتصوراتها لوضع نهاية لمأساتها التراجيدية) ، نراه يردف ذلك عبارة : (تحول المشهد) وكأنه يقطّع الأحداث مثلما يفعل كاتب السيناريو، أو (السيناريست)، وهنا يختلف أسلوب السرد الروائى، وأسلوب تفكير البطل للوصول الى غايته.
فى النهاية أقول :
إن هذه الرواية تكشف عن العديد من تفاصيل مجتمع بادية سيناء : عاداتها، تقاليدها، نمط التفكير فى القبيلة، مع أن بعض أحداثها قد وقعت فى القاهرة وأماكن أخرى، كما تكشف عن جغرافيا الذات البدوية من خلال تشابك الأحداث وتلاحقاتها الزمانية والمكانية مما يدلل الى اضطراب الذات القلقة ومحاولاتها تغيير الواقع بالتمرد عليه ، والمغامرة ، مع التأكيد على أن التعليم هو الذى أحدث شرارة التمرد من خلال شخصية”ضحى”، ذات التعليم المتوسط (الثانوى) ، وشخصية الدكتور “عارف” وبعض المتعلمين فى البادية مثل : “والد ضحى “، وأحد أفراد العشيرة الذى نصح كبيرها بعدم الإقدام على حماقات قد تسبّب فى هلاكه أو هلاك البعض من شباب العشيرة ، وتحذيره لهم بعدم التهور بالإقدام على قتلها لاعتقادهم بأنها جلبت لهم العار ، كما تحكى الرواية.
ومع أن البيئة البدوية ـ الآن ـ أكثر تسامحاً، وأقلّ حدة لانتشار التعليم بين أبنائها، إلا أن الكاتب أراد وضع أيدينا على مكامن أنماط مجتمعية وطرائق تفكيرها بغية معالجتها والتمرّد عليها ، لتذويب الفوارق بين البادية والمدينة بما يتّسق مع الشريعة الإسلامية السمحاء، وبما لا يتعارض مع مبادئ الإنسانية بشكل عام.
لقد نجح / عبدالله السلايمة ـ فيما أحسب ـ فى الخروج بروايته : “صحراء مضادة” من فخّ الحشو والتّرهل الى جماليات السرد باستخدامه تقنيات إجناسية كالسيناريو،ولغة الدراما السينمائية، وهى كتابة ” عبر نوعية ” لمسيرة السرد ، قد أضفت عليها ثيمات ساحرة أثيرة، بما يبشر بسموق فى تتابعات السرد ، كما يعكس الطبيعة الإنسانية النبيلة لدى ابن البادية”عارف” ذلك النبيل الشهم الذى انتصر على ذاته وشهواته، ليفوز فى النهاية بقلب الغادة الحسناء : “ضحى” بعد كل المعاناة التراجيدية والأحداث المأساوية التى مرت بها.
إن الروائى /عبدالله السلايمة يقدم لنا عبر روايته :”صحراء مضادة” صورة جيدة للإصرار على الدفاع بشراسة عن قناعاتنا، والتصدّى لكل ما من شأنه تشويه وجه المجتمع البدوى الجميل ، والتغلب على كل المشاكل للذات باستحضار القيم الإنسانية التى يتّصف بها الفرد، والتى تنعكس آثارها فى التغير المجتمعى لتقبّل الآخر، والتنازل عن ممارسات تعطّل الوجود الانسانى، وتمنع الحب والخير عن كثيرين، كما تنتصر الرواية لحقوق المرأة البدوية كحقها المشروع والشرعى فى اختيار شريك حياتها ،دون ضغوط من السلطة الأبوية :(الوالدين)، أو السلطة المجتمعية : (القبيلة)، وتلك لعمرى قيم نبيلة لانتصار العلم على الجهل بفضل المغامرة وتحدّى الصعاب ، والانتصار للحرية والعدل الإنسانى.
إن هذا النوع من الروايات :” الاجتماعية الواقعية ” تعكس مناطق أكثر صمتاً، وتفضح المسكوت عنه فى المجتمعات الصحراوية، وهى نوع من الثورة على الأعراف والتقاليد والجهل، وكل ما من شأنه تعطيل مسيرة الانسانية السمحاء التى نادت بها الأديان ، وكل دعاة الحق والحرية فى العالم فى كل زمان ومكان.