القصة.. القصيدة.. ومسيرة التجديد السردي الشعري

القصة.. القصيدة.. ومسيرة التجديد السردي الشعري
حاتم عبدالهادي السيد
بداية، فإن كل فن أدبى مستحدث يحتاج إلى نظرة تأمل وأسئلة واستفسارات عن الماهية والتكوين والعناصر والخصائص المنتجة لهذا النوع، أو الجنس الأدبى الجديد، وغير ذلك.
ومن هنا يجىء السؤال: هل القصة القصيدة نوع تطوري وشكل جديد يضاف لمسيرة القصة العربية في شكلها الحداثى، أو ما بعد الحداثى والمفاهيمى، وغير ذلك؟ أم إنها تمثل جنساً أدبياً جديداً مغايراً لطبيعة القصة الحالية، بأشكالها المختلفة وبفنياتها المستقرة؟
وأيما كان الأمر، فإننا – بداية – نشجع كل فن جديد، أو أي طريقة تستحدث للفن آفاقاً تغايرية، وتجدد ثوبه الإبداعى، ليساير تطورات العصر، وحاجاته ومتطلباته التى تستدعى من المبدع تطويراً لشكل ومضمونية العمل الإبداعى الذى ينتجه.
ولقدعرف الناقد المصري/ادوارد الخراط “القصة القصيدة” بأربعة محددات اجناسية،هي: “الوجازة”، و”الكثافة والتركيز”، و “إيقاعية اللغة”، و”هيمنة السرد”؛ وفي هذا يقول الخراط : «ما أسميه القصة القصيدة في النهاية له قسماته التي حاولت أن أشير إليها بقدر ما يسعني من الدقة، أولا: الوجازة، إن شق القصيدة في “القصة القصيدة” يتطلب قدرا من الإيجاز أو ضيق المساحة الزمنية (حتى لو كان في تراثنا وتراث غيرنا كم من القصائد المطولات، فكم فيها من جوهر الشعر في ركام القوالب وحشد الزوائد؟ .وثانيها: الكثافة والتركيز وهي قرين الوجازة والزهد في الحشو والإسهاب، وثالثها: إيقاعية التشكيل وموسيقية الجملة والتركيب على السواء، أما أهمها وأفعلها ولعلها المعيار فهي، في النهاية، سيادة السردية – بأي من مناحيها وأشكالها ومشاربها الخفية والمعلنة.»
ويمكننا بكل سهولة – كما يقول الناقد المغربي / عبدالرحيم الخالد – تصور ما يريد أن يوصلنا إليه هذا التساؤل التأكيدي للخراط: إلى أن “القصة القصيدة ” تنبني على طريقة تقديم القصة أو الرواية؛ أي على طريقة الكتابة النثرية المسترسلة، وكأن هذه الطريقة خاصة بهذين الجنسين دون غيرهما من أجناس الخطابات النثرية الأخرى، غير الشعر المتميز، طبعا، بطريقة كتابته المختلفة القائمة على التقطيع النظمي وفق أبيات أو أسطر شعرية.(3) وهذا ما يكشف عنه صراحة عندما يقول: «في “القصة-القصيدة” إيثار واضح ومعلن عنه لطريقة التقديم “القصصية” أو “الروائية” لن تجد فيها – بقدر ما أعلم – جملة مقسومة على سطرين أو أكثر، ولن تجد فيها من باب أولى تلك الأبيات التي يتكون كل بيت فيها – بلا استثناء – من جملة واحدة كاملة أو حتى من أكثر من جملة ولكن “البيت” المستقل هو المقر الأساسي للعبارة».(4)
والخلاصة : إن إدوار الخراط قد حصر خمسة محددات خطابية لهذا الجنس الهجين المبني على تضافر جنسي القصة والشعر: ثلاثة منها مستقاة من جنس الشعر وهي الوجازة والتكثيف والإيقاع؛ واثنان منها مستقيان من جنس القصة القصيرة وهما هيمنة السردية والتقديم الطباعي(5).
وانطلاقاً من التأسيس العام لما هو خاص عن الفكرة الأولى لمصطلح القصة الشاعرة فإنه –كما أرى– أنه من العبث إطلاق الاجناسية، على ما هو متكىء على ماهيات الشعر، والقصّ حتى لو أضفنا إليهما سمات جديدة، فهى من باب اختلاف الطريقة، لا اختلاف الماهية التى تخص ما هو نثرى وشعرى، وبمعنى آخر إذا ما أردنا أن نضيف القصة الشاعرة إلى الجنس الأدبى المغاير، باعتبارها جنساً مختلفاً عن الشعر والقصة.
فعلينا – كما أرى – أن نتخير لها مسمى جديداً، لا ترتبط الذهنية فيه بمعيارية، وتعارفية لشروط الشعر والسرد القصصى، كى لا تختلط الأمور على القارئ والناقد، والمبدع أيضاً؛ إذ أن المبدع لا يمكن أن يقول: نويت أكتب قصة شاعرة، واضعاً في ذهنيته الشروط المعيارية لهذا الفن الجديد، كى لا نصف الأدبية في هذا الفن الجديد بالجمود، وأدلجة الفكرة والموضوع ميكانيكياً، أو وضعه في قوالب جامدة من جهة، ومن جهة أخرى لا يجب أن نلوى عنق النص باشتراطات مسبقة، فنقع في المباشرة، والضرورة التى لا تتسق مطلقاً مع ماهية الفن، التى تشترط –بداية- الانطلاق والتحرر من القيود، وإن التزمت الضوابط في الذهنية فقط، وقد تخرج الفكرة منحرفة عن السياق النصىّ، فتأتي عملية التنقيح تالية على الإبداع، لتصحّح وتوجّه الانحراف المعيارى، إلى الكمال الجمالى، أو شبه الاكتمال؛ لأن الكمال منقوص، وإن كان جميلا ومتألقاً،؛ لأننا كبشر ننحو إلى الكمال النسبى، لا الكمال الكلىّ، بحسب تكويننا التخليقى الأول.
وهنا يأتى دور الناقد كذلك ليحلل ويقارن ويوازن ويعمل أدواته عن طريق القياس العقلى والاشتراطات الإجرائية ليحكم على النص الأدبى دون وجود أحكام مسبقة، بل النص يصنع إجراءاته حسب السياق الموجود فيه، والقالب والسمات التى يتسم بها، والتى تعارف عليها النقاد سلفاً.
ومن كل ما سبق، وغيره، كذلك يمكن اعتبار القصة القصيدة؛القصة الشاعرة،والشعر القصصي، والقصة الومضة، والمسرح الشعرى، وغير ذلك أشكالا ابتداعية، أتت على مقيس سابق للشعريّة والنثرية، وابتنت أسسها الجمالية، وقيمتها المضافة عبر النوعية،على ماهيات التكوين السابقة. فهى تطورات في النوع الأدبى، لا تجنيساً لعلم جديد، أو ابتداعاً على غير مقيس، وإن لم نغفل هنا نظرية تكاملية العلوم، لكننا في النقد المنهجى لابد من الفصل بين كل الأجناس الأدبية، كى لا تختلط المفاهيم والمعايير، لكى نبتنى النظرية النقدية، والتأصيل لهذه الفنون التى –أراهاً – تطوراً للشكل القديم للقصة والشعر معاً، أو لما هو إيقاعى مموسق، وما هو ترميزى نثرى، أو تعبيرى عام، ومن هنا يمكن الحكم على القصة القصيدة- وكل الأشكال الجديدة السابقة بأنها: أشكال، وأنواع جديدة، تحديثية لفن القصة، أو للشعر، دون محو الهويّة الشعريّة والقصصية، اللتين ابتنتا عليهما هذه الأشكال تكوينها الأول، طالما أن المادة التكوينية واحدة –ناهيك عن اللغة هنا– كما أن اطلاق صفة القص والشعرية، على اللغة الشاعرة / الشعرية، والجمع بينهما معاً لا يمكن أن يلغى وجودهما ومعاييرهما، وإن أضفنا أو حذفنا منهما، أو اعتمدنا على البلاغة فحسب، وإن استعملنا التدوير مثلا، أو السياق الإحالى، فهذا لا يلغى بالطبع طاقات اللغة الإحالية لمفهوم القصة والشعر هنا، إذ تكوينات البناء القصصى والشعرى تعتمدان التخييل الإحالى، الذى يقرّب التصورات المراد إيصالها للقارئ باستدعاء الجمالية، دون مثاقفة، أو حذلقة معيارية، قد لا ينتجان تشاركية للقارئ. فالنص الكونى ينطلق من ماهية أن الإنسان عارف بكل تفاصيل ومدلولات التعبير المراد، وكل شىء في الحياة والكون، وما وراء القصديّات، وهذا شىء خارق للعادة ولا يتأتى حتى لنبىّ مرسل.
فالأخير يأتيه الوحى بمستغلقات ما نقص في كمالية تفكيره كذلك، ومن هنا وجب على الإحالات أن تكون دالّة، وقريبة من التصور العقلى للقارئ، دون الاعتماد على السياق الإحالى التثاقفى، الذى يحتاج إلى مثقف من نوع خاص، وإلا كنا ننتج الفن للفن، ونحن ننتج الفن – في الأساس لأنفسنا أولا ، ومع أن هذا له وظيفة علاجية ،أو تطهيرية من جهة، إلا أننا قد ننتج الفن للمجتمع أيضاً. وهذا ما يتطلب حاجة تعليمية ، أو توجيهية، أو ضرورة ملحّة، أنتجتها الظروف المجتمعية الآنية. ومن هنا فغاية الفن ليست ذاتية فحسب، بل موضوعية كذلك، وتنسحب إلى كل ما في الكون والعالم والوجود والحياة أيضاً.
ومن هنا وجب تعريف القصة القصيدة –كما أحسب- بأنها: لون أدبى، فنى جديد، يستقى مادته من ماهيات الشعر، والقص، ويضيف إليهما طرائق تعبيرية جديدة، تعتمد التدوير داخل نسيج السرد القصصى الشاعرى، وتعتمد الإحالات الترميزية لإنتاجية قصة قصيدة، تجدد في شكل السرد القصصى بمفهومه الحديث، وتضيف إليه أبعاداً جمالية أخرى، تمايزه عن الأشكال الأخرى، كالقصة الومضة، والشعر القصصى، والقصة الشاعرة؛وبعض أشكال قصيدة النثر، والشعر المرسل، وغيرها من الأشكال التعبيرية الجديدة للقصة العربية المعاصرة.
وهذا التعريف -في نظرى– يمتد ليشمل كل الأشكال الإبداعية الجديدة للقصة العربية، ليظهر تمايزها عن القصة القصيرة، بمفهومها الغربى، المستقر في الذهنية، وهذه الأشكال الجديدة وإن اعتمدت الموروث العربى، إلا أنها تنطلق من المفاهيم المعيارية للقصة الغربية، لينتج هنا ما يسمى –على حد تعبيرى– بالقصة العالمية، الكونية، الجديدة، التى تستقى مادتها من المنجز الإنسانى، بعيداً عن الجغرافيا، والحتمية التاريخية، والاقتصادية، ولكنها بصدق: قيمة تعبيرية مضافة، تضاف إلى مسيرة السرد الإنسانى العالمى، بنكهة عربية، تعتمد التراث العربى مرجعية، والموروث العلمى والأدبى والتثاقفى للمنجز العربى الإنسانى، الذى لا ينفصل عن الإبداع الإنسانى في العالم . (4)
وقد يقول قائل هنا: إنك أخرجتنا من المصطلح الضيّق، إلى أفق تهويمات عالمية، ولكننا ننشد الغائية النبيلة، لمبتدعى، ومبتكرى تلك الأشكال الجديدة، بضوابطها المعيارية التى تمايزها، بغية إنتاجية إبداع إنسانى جديد، يضيف إلى السابق، ولا ينفصل عنه، ويفتح أفقاً تنويرياً وتحديثياً وتثويرياً للغة السرد، لتضيف –ربما- مبحثاً جديداً لعلوم اللغة، واصطلاحاتها، في الإعلان عن أشكال وأنواع إبداعية جديدة، تضاف إلى الرصيد الإنسانى الإبداعى العربى، ليقف شامخاً –كما هو على مرّ العصور- في مصاف الإبداع العالمى المتنامى، والما بعد حداثى، المبتكر، والجديد، الذى ينتج أفقاً سردياً شاعراً، للذائقة الأدبية العربية / الكونية / الجديدة.
ولن يضيرالقصة القصيدة؛ أوالقصة الشاعرة/ أو القصص الشعرية –؛ولا فرق بين هذه المسميات- كما أحسب – حيث وصفنا لها، وعرفناها بأنها: نوع، أو شكل إبداعى جديد للقصة العربية، بنكهتها التراثية، وإحالتها التناصيّة، والنصيّة، وتموضعاتها التحديثية، بل إننا نحاول هنا ضبط منهجية جديدة، تعتمد فلسفة العلوم، كأساس للعلم التجريبى، وللابداع الجديد، الذى يعلن عن نفسه في سماء الأدبية العربية؛ والعالم أيضاً.
هوامش :
. (1)عبدالرحيم الخالد ؛ الكتابة عبر النوعية: مقالات في ظاهرة “القصة-القصيدة” ونصوص مختارة، القاهرة، 1994، ص. 15
(2) من المعلوم أن طريقة توزيع الخطاب في الشعر هي ما تمثل الاستثناء، وليس طريقة توزيعه في القصة أو الرواية اللتين تلتقيان مع جميع الأجناس غير الشعرية، أدبية كانت أو غيرها، في كونها خطابا نثريا عاديا، بيد أن الخراط يغض الطرف عن هذه الحقيقة البديهية، ربما حتى لا يقوض منذ البداية البناء المنطقي لتعريفه “للقصة القصيدة”، لأن في حالة العكس سيظهر أنه يتكلم بكل بساطة عن قصيدة النثر .
(3) د.عبدالرحيم الخالد -؛القصة القصيدة: وهم تجنيس أو شبقية تنظير؛ مقال ؛ مجل
(4) حاتم عبدالهادي السيد ؛ كتاب السيموطيقا والخطاب الأدبي؛ وزارة الثقافة المصرية؛ النشر الاقليمي؛ دار الأمل للطباعة؛ القاهرة؛ 2015 .
(5) حاتم عبدالهادي السيد؛نظرية المعنى؛نحو نظرية عربية للنقد الأدبي المعاصر، دار الأدباء العرب للنشر والطباعة؛مصر ٢٠٢٠م.