النظرية الأمريكية الجديدة للقيادة من الخلف
النظرية الأمريكية الجديدة للقيادة من الخل
٭اللواء. أ.ح. سامى محمد شلتوت.
حالة من عدم الإستقرار نتيجة القرار السياسي والتحرك الخارجى لقادة الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترات السابقة والممتدة حاليا، وذلك بالنظر لحالة التموج الأيديولوجى ما بين أفكار المحافظين الجدد في عهد الرئيس الثالث والأربعين جورج بوش الإبن، إلى التقدمية الليبرالية مع الرئيس الرابع والأربعين باراك أوباما، ثم المحافظين القوميين في إدارة دونالد ترامب الرئيس الخامس والأربعين، حتى تصل إلى مشروع جديد لقيادة العالم بالتزامن مع الذكرى العشرين لأحداث الحادى عشر من سبتمبر، وذلك من خلال الخروج من مناطق التوتر والتكلفة في عهد الرئيس الحالي السادس والأربعين جو بايدن، وهو ما ظهرت تطبيقاته تباعا على حالة الخروج المتوالى من مناطق الإضطراب عبر تفاهمات سياسية، ذلك بالنظر بشكل خاص على الحالة العراقية والأفغانية، ليصبح التساؤل حول ما يمكن أن تئول له الأوضاع السياسية والأمنية بالشرق الأوسط، وأى من القوى التقليدية أو الصاعدة بالإقليم، أو تلك بالدوائر الدولية ستنجح فى ملء الفراغ الأمريكي بالشرق الأوسط؟
انطلاقاً من نظرية «القيادة من الخلف»، إنتهج الديمقراطى جو بايدن ما كان يؤسس له الرئيس السابق باراك أوباما بتقليل التدخل العسكري في المنطقة، لعدم تكرار مأزق العراق وأفغانستان. فعلى سبيل المثال، رفضت إدارة أوباما التدخل عسكريا في الأزمة السورية، وإكتفت بدور المراقب للقوى الدولية والإقليمية، وهو ما دفع بايدن لإعادة ذلك التصور فى ظل تنامى عدد من المحددات الدافعة لذلك المسار، إذ يوفر مشهد التهديدات المتغير في المنطقة فرصاً مماثلة، تدفع نحو ترحيل مسألة إبقاء مكافحة الإرهاب في مقدمة الأهداف الأمريكية كما كانت منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر، مقابل أولويات أخرى بالمنطقة، ومنها على سبيل المثال طمأنة واشنطن للحلفاء بالإقليم، ودعم الديمقراطية، وتقليص درجة الإنكشاف، وخفض التكاليف جنبا إلى جنب مع الهدف الرئيسي والمتمثل في تحرير الموارد اللازمة من أجل التحول الإستراتيجي للإدارة الأمريكية إلى منافس للقوى العظمى وفى مقدمتها روسيا والصين، وهو الإختبار الذى لا يزال فى طور التكييف إستناداً إلى مفاهيم:
١-إعتماد نمط السياسات المرنة.
عبر المواءمة بين تحديات مكافحة الإرهاب ودعم الإقتصاد الامريكي لمواجهة تحدي صعود قوى دولية أخرى على المستوى الدولي، وذلك بالإنسحاب من مناطق الإرتكاز بالشرق الأوسط مع الإحتفاظ بنخبة من القوات الخاصة لدعم عمليات التدخل السريع والإعتماد على أنظمة المراقبة والسيطرة الجوية (طائرات بدون طيار) ودعم الحلفاء المحليين والإقليميين لموازنه تداعيات الإنسحاب، ودفع القوى الدولية الأخرى لتحمل مسئوليتها بالإقليم جنبا إلى جنب مع الإعتماد على سياسات مرنه ترتكز على جهود زيادة الخيارات غير العسكرية لواشنطن، مثل تعزيز الأداة الدبلوماسية، وإصلاح العلاقات مع الشركاء، وإعادة تأكيد إلتزام الولايات المتحدة بالمنظمات الدولية.
الجدير بالذكر أن الوجود الأمريكي بنقاط الإضطراب بالشرق الأوسط، مثل العراق وأفغانستان، ساعد فى إنهاك الإقتصاد الأمريكي مقابل تعزيز التقدم الصيني على المستوى الإقتصادي على سبيل المثال، كون أن الأخيرة لا تخوض حروبا، بل تستثمر في البنية التحتية والشركات في معظم دول العالم، وهو ما يُشكل تهديد حقيقي للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي وإنتفاء مبدأ (الأحادية القطبية) مقابل تعزيز نمط (التعددية القطبية).
٢- تقليص حجم البصمة العسكرية.
سبق أن أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، في الرابع من فبراير الماضى، أن وزارته ستباشر بمراجعة وضع القوة العالمية للبصمة العسكرية الأمريكية ومواردها وإستراتيجيتها ومهامها. إذ بالسابق ركزت الاستراتيجية الأمريكية للدفاع الوطني لإدارة ترامب عام 2018 على التنافس مع الصين وروسيا كأولوية قصوى، وهو ما أعاد طرحه مرة أخرى في ظل التحركات الراهنة في الشرق الأوسط ورغبة إدارة بايدن في تحويل التركيز بعيداً عن المنطقة، مستغلا فى ذلك عددا من المؤشرات، أهمها إنحسار تنظيم الدولة (داعش) فى سوريا والعراق، وشرعنة التعاون الأمني العربي/الإسرائيلي فى ظل ما عُرف بـ (الإتفاقات الإبراهيمية) ورأب الصدع بين الأطراف العربية، ورغبة الرئيس بايدن في تخفيف التوترات مع إيران والعودة لمباحثات الإتفاق النووى، إذ جميعها مؤشرات تدفع الإدارة الأمريكية الحالية بإعادة النظر فى الموقف العسكرى الأمريكي في الشرق الأوسط.
الجدير بالذكر أن هناك العديد من الأطروحات المتعلقة بخفض البصمة العسكرية، أهمهاإعادة النظر باستبدال البحرية الأمريكية لعمليات (الإنتشار المستمر لحاملات طائراتها) بعمليات إنتشار أقصر وأقل توقعاً، وكذلك بحث إمكانية تحويل أصول(الإستخبارات والمراقبة والإستطلاع) بعيداً عن الوجود الدائم في منطقة الشرق الأوسط. والإستعانه بالقوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا بتوسيع النطاق الإستخباراتي، فضلا عن موازنه الخروج الأمريكي من المنطقة وخفض عمليات الإنتشار الدائمة في الشرق الأوسط وإستبدالها بتمارين قتالية متكررة ومتعددة الأطراف، وهو ما يلزم معه بناء برامج شراكة وإجراء إستشارات وتدريب ومساعدة، خاصة مع الشركاء بالمنطقة (مثل العراق وشمال سوريا)وبما يخدم مصالح متعددة، أهمها( ردع العدوان- وتعميق قابلية التشغيل البيني- وزيادة التعاون الإقليمي- وطمأنة الحكومات المحلية- وتعزيز قدرتها على حماية حدودها- وبالتالي تخفيف العبء الأمريكي وخرائط الإنتشار العسكري).
٣- موازنة أجندات الداخل وتحركات الخارج.
أحد أهم الإختبارات التى تخضع لها إدارة بايدن ما يتعلق بإنجاز تعهدات الإنتخابات الأمريكية، والشعار الإنتخابى المتمثل فى عودة أمريكا، هو ما إنعكس بالتحرك لموازنة عدد من النقاط، أهمها:
– محورية الإنسحاب الأمريكي من الشرق الاوسط.
-تردي الأوضاع الداخلية الأمريكية.
-إرضاء الشارع الأمريكي .
-إنهاك الخصوم خاصة روسيا والصين.
٤- نظريةملئ الفراغ:
عمدت الولايات المتحدة لـ ملئ الفراغ الإستراتيجي بالشرق الأوسط عقب الخروج البريطانى كأحد مؤشرات إنحسار الإمبراطورية البريطانية، لتُعاد الدائرة مرة أخرى بالإعلان عن الخروج الأمريكي لتظهر إشكالية ديناميكية تتلخص فى «من سيئول له ملء الفراغ الأمريكي بالمنطقة » وهو ما يدفعنا ببيان فرص القوى الإقليمية والدولية بالمنطقة بعمليات الإحلال والتبديل بين:
– القوى الاقليمية وإعادة الحوار الإقليمي .
– القوى الدولية والتعديدة القطبية – الدوافع الروسية فى الشرق الأوسط .
– الدوافع الصينية فى الشرق الأوسط.
– الدوافع الأوروبية فى الشرق الأوسط.
-التعاون الثنائى فى عملية صنع القرار بين الكتلة الأوروبية والشرق الأوسط.
-تصدير قواعد الحكم الأوروبية لدول الإقليم.
-تنمية أواصر العلاقات البينية مع الفاعلين من دون الدول.
-بناء “مصفوفة برجماتية” قائمة على المصالح المتبادلة بين الكتلة الأوروبية ودول الشرق الأوسط.
-تعيين طبيعة المساحات المشتركة والأدوار المتباينة بين دول الكتلة الأوروبية والقوى التقليدية والصاعدة الأكثر نفوذاً بالإقليم.
ثمة عددمن التداعيات والإنعكاسات المُحتمل أن تصاحب الإنسحاب الأمريكي من مناطق الإرتكاز الحيوى بالشرق الأوسط يتمثل أهمها فى:
-تنامى التنافس الجيوسياسي بالمنطقةمع إنسحاب القوات الأمريكية والغربية من أفغانستان والعراق، من المحتمل أن تنخرط، أو بالأحرى تتورط، العديد من القوى الإقليمية والدولية في منافسة جيو-إستراتيجية للإستفادة من تلك الخطوة رغم محدوديتها قياساً بالدور الذي لعبته الولايات المتحدة منذ قرابة عقدين من الزمن. وذلك بالنظر إلى العديد من المحددات الجاذبة لذلك الأمر، بالنظر إلى حجم الموارد بالمنطقة وتنوعها، ومركزية الجغرافيا، ومحورية الممرات البحرية .. إلخ.
-تزايد مخاطر التنظيمات الإرهابية ومعضلة الأمن بالإقليم. يُعزى بتلك النقطة الفراغ الأمنى الذى قد يتسبب فيه الانسحاب الأمريكي، بما يدفع نحو إعادة تشكيل أجيال موازية من التنظيمات الإرهابية والمتطرفة، وذلك بالتوازى مع ضعف الهياكل الأمنية بالدولة المضطربة سياسيا. فعلى سبيل المثال، قد يدفع الانسحاب الأمريكي من العراق نحو تشجيع تنظيم “داعش” على التمدد في العراق، ومحاولة تجنيد مزيد من الأنصار له، وذلك لموازنه تحدى ميليشيات الحشد الشعبي. مع التهديد الأمنى من تداعيات سيطرة جماعة طالبان على أفغانستان، وإعادة إنتاج النموذج العراقى فى أفغانستان.
– إعادة إنتاج أولوية ملف اللاجئين إذ يبدو جليًا أن أزمة اللاجئين سوف تتصاعد حدتها خلال المرحلة القادمة.
– إعادة التنظيم الإقليمية، وذلك عبر تقييمات موازين القوى المتغيرة والمصالح المتقاربة بالمنطقة. وتوطئة الإقليم نحو التوصل إلى إتفاق من أجل بنية أمنية شاملة جديدة تردع إشكالية حتمية الصراع بالشرق الأوسط.