ثقافة و فن

التطبيق النقدي للقصة القصيرة ..عبير فوزي تتألق بمجموعة” طوقني حتى الموت”

حاتم عبدالهادي السيد

تبدو تجليات المكان فى المجموعة القصصية الشعرية السامقة : ” طوقنى حتى الموت ” ،للشاعرة القاصة  عبير فوزى ، أشبه بسيمفونية البهاء ،التى تعزفها لنا عبر روحها البهيّة الطالعة من حدائق اللغة الفطرية الشعرية ،المعبّرة عن الواحة المصرية،عن محافظة الوادى الجديد،ومدنها التاريخية،العريقة : الخارجة،الداخلة،الفرافرة،باريس ،القصر ..
وعبر مسيرة السرد الحكائى نراها قد أفردت مساحة للتأمل، للبوح ، لكتابة الأنثى المخلصة للمكان ،عبر الغرود الطينية ، والسهول والتلال ،ومناظر الخضرة البديعة، التى تميز الواحة في قلب صعيد مصر الذى يمور بالحب، والتشاكلات القبيلية ، والنظم الاجتماعية السائدة ، المحافظة، والتى تقيّد وتعرقل مسيرة الابداع ،لكنها باصرار الفتاة   المرأة الجنوبية ، القوية، الشجاعة ،نراها قد استطاعت عبور الحواجز، وتسلق الجسر، لتطلعنا إلى جوهر السرد ، وجماليات المكان ، وصدق الذات الانسانية، وفطريتها ، وعفويتها في التعامل مع الحياة ، لدى أغلب سكان الواحة بصفة خاصة ، وصعيد مصر بصفة عامة أيضاً.
انها  عبير فوزى ، مبدعة من الجنوب ، تكشف مكنونات وخبيئة الفرعون، تصنع الحضارة، الابداع ، بقلمها الصغير ،تجهر بالحب، وتتسلق الغرود الطازجة،لتقبض على فراشات النور الشاعرة،التى تفر في دلال مونّق من الشمس الصادحة بالحياة، والنابضة بأحلام أهل الواحة الطيبين .انها المبدعة التى اعادت انتاجية الواحة :عاداتها ، تقاليدها،علاقات البشر بالمكان ، وعلاقاتهم مع بعضهم ، أزيائهم وحليّهم،عبر قلائد الذهب المنيرة على وجه البدو هناك ، والقبائل ، والسكان النازحين من المحافظات الأخرى . وهى عبر كل هذا،رأيناها تمسك قلمها السّيميائى لتؤرّخ لنا مسيرة الحياة هناك،كأميرة فرعونية ،أغوتها لعبة السرد ،فتمادت في نسج حكاياها الواقعية ، ويومياتها ، رسائلها التى ترسلها الى المجهول ، العالم ، والتى تصوّر فيها المكان،البشر ،الغرود ، الطريشة ” من الزواحف ” ، التلال ، المعابد الفرعونية ، آثار الواحة المشرقة التى تحكى تاريخ المكان ،عبر عصور الزمن المتعاقبة ، حيث المكان هو البطل الذى تجسّدته ، وتلبّسته ،في صورة عاشقة تتغيّا حبيباً ،لا يجىء ،عابراً هناك في برارى العالم ،وهى تناديه من خلف الغرود البهيّة المشرقة ،تعزف له سيمفونية باذخة ، منسابة على القلب الحزين ،القلب الذى يتشهّى الحياة والدفء ، ويؤمن بقيمة الوطن الذى لا ينسى أبداً أبناءه ،هناك خلف ركام الأطلال،عبر البهو الفرعونى الخالد ،للمجتمع الواحاتى النبيل .
انها قيم الوفاء، التسامح ، الفضيلة ، المحبة تجدلها بروحها الصغيرة ،لتصنع منها التفاصيل الصغيرة،منمنمات وزخارف،تنثرها على الورق،لتجدّد ثوب السرد المصرى المندغم مع الشعر ،ببساطة ،وعفوية ، وطزاجة لغة فريدة ، صادقة ،وبهدوء شديد أيضاً .
انها فتاة الواحة – اذن- التى تفتّحت عيناها على الحب ،على الجنوب، على الوطن الغافى في غرود الواحة ،على البساطة والفطرة، لذا عندما أحبت اكتشفت أنها قد خدعت ،أو هكذا كانت الأقدار،فنراها تصدح عبر لغة زاهية معبرة ، دون رتوش ، أو زيف ،بل ببراءة شديدة تعلن خداع العالم ، وهم التاريخ ، عدم معرفتها بالآخر، أهوالها الصغيرة / الفاجعة ، تقول :
كنت بليدة جداً في مادة التاريخ،
لذلك أحببتك ” ..
انها اذن عاشقة ، محبة ، تسخر من المحبوب ، الغائب / الهاتف المجهول ،عبر ثبادلية الصورة والظلال، الحقيقة والأطلال ، الحلم والواقع : تحنّ اليه، وتنتقم لذاتها ، تهجوه ،وتبكى من أجله ، وتغمّس دموعها البتول في محبرة العالم ،لتكتب قصة الحب الكبير ، أدب الرسائل ، القصة القصيرة الجديدة ، عبر أسطورة الغياب، وعبر حمولات اللغة التى تستدعى كل هذه المعانى الانسانية ، من خلال “اقتصاديات اللغة “،المائزة ، الجميلة ، المطبوعة ، لا المصنوعة ، والصادقة بكل ما تحمله من معانى، لتشير الى أشياءها الصغيرة جداً ،والكبيرة في معيّة العالم والكون والوجود.
انها أهوال الغياب ، الغربة في المكان ، عبر الزمان الممتد، رسائل حب لقصة حياة الواحة ، صورة الأنثى، التي تمزج غيها لغة السرد بالشعر ؛ لذا نراها تحاول أخذ حقوقها عنوة ،رغم كل القيو ، تجهر بالحياة، وتزعق في ربى الغرود، تسير برفق وكأنها على جمر ، لتعيد تشكيل الذات والعالم ،والمجتمع والحياة ، وتبتنى لها بيتاً من وجع الغياب ، تتصبّر به من رهق الأيام ، ومرارها الممتد.
كما تحيلنا / عبير فوزى في مجموعتها – منذ البداية – الى لغة الرسائل الشعرية، الى الفعل ،الى الاطار الذى تتغيّاه عبر العنوان المفارق: ” طوقنى حتى الموت ” ،الى في فعل التطويق،حتى آخر نفس في زفرات الحياة ؛ فهى تأمره،تستعطفه،بعنف ،ترجوه بقوة،أن يفعل،أن يأتى بالحبال والقيود ليطوّقها عبر سجنه، روحه الصغيرة التى تتشهّاها ،ليضمها الى روحه ، ،يضغط عليها بقوة حتى النهاية :الموت،الفناء في المحبوب،حتى آخر قطرة في عمر الموت/ الحياة ، وكأنها صوفية جديدة ،خاصة ، سوريالية، تجريدية ، وبصراحة ،وبعفوية،رأيناها تأمره ليطوقها بقوة، داخل روحه حتى يذوبا، يندغما معاً حتى آخر رهق في جسد الحياة/ الموت ، وكأنها تتمثل قول الشاعر الصوفى العاشق الذى ذاب في المحبوب:
أنا في أنا وانى في أنا رحيقى مختوم بمسك الحقيقة
انها / عبير فوزى تكوثر المدى ، وتفتح مساحة للبوح، ثقباً في الجسد ،لتريق دمها على بوابات الوجع ، تصرخ في البرارى ، للبعيد الذى لايجىء، العابر المقيم بداخلها ، القابض على زمردة الروح، وجمر البوح، والمتربع على سرّة الأسرار ،والوجع الشهى الزاعق ، الذى يحيل السرد لديها الى موسيقا الوجع الكونى : ثقب في جسد جنوبية يريد خرق الكون والعالم ،للهروب بالحب الى البعيد ، أو لوصال المحبوب المختفى داخل أروقة السرد،وكأنها تخفيه في سرداب الروح بقلبها الواهن،الصارخ في وجه العالم بقوة :(طوّقنى حتى الموت ) أيها الحبيب القابع هناك في ثريّا البراءة ، فهى تراه ،بعيداً في المكان / قريباً في القلب،تذوّبه كقطعة السّكر في فنجانها الأشهى ،وتهفو قربه ،كما الفراشة ، أو النحلة التى تمتصّ الرحيق من طلع الأزهار الجميلة لتصنع فردوساً للحب ، يظهر ويختفى ، يجىء ويروح، يغدو ويمسى ، ، أو كأنها “كالمستجير من الرمضاء بالنار”، كعصفور مربوط فوق موقد الجمر،وهى هناك قد جعلته هامشاً في منتصف القلب،وطوّقته حتى الموت ،لتصنع منه : “ظل اله ” في معبد الحب الأثير.
انها الساردة المرهفة الحس، تمازج في هارمونى سلسال، بين الشعر والسرد ، بين البوح والافضاء ،التلويح والتصريح بالعشق ، وتخفى ملامحه السريّة، لتخبأ قبلته داخل منديلها الأشهى ،وكأنها رسائل ذات شيفرة سرية،تخفيها بالروح الى الأبد، فلا يضطلع عليها سوى قلبها الصغير الواهن ، المجروح ، عبر انكساراتها الكونية منذ لحظة الميلاد،وتمنّيها العودة من جديد الى رحم الأم ،لتتوارى داخل سراديب الوحدة ، اللايقين ، اللاحقيقة ، اللاوجود ، الموت الفيزيائى ، السيميولوجى ، الموت المعنوى ، للحب الكبير الذى ذهب وأصبح هامشاً في منتصف القلب ، لذا ستناديه وتصرخ بعد ذلك : ” خذ الشمس معك ” ، لا أريدك ، لكننى أحبك ،وكأنها رسائل السردالشعرى، ترسلها عبر شهقات الوجع ، وتنثرها كدم ينساب على الأرض،لتكتمل وجيعة الحب الغائب،للحبيب البعيد .
انها تمنطق الوجود،وتفلسف لغة السرد،عبر التراكب،التكثيف،التّرميز،الاختزال،وعبر الانزياحات،والتضمينات،التى تحيلنا الى ذواتنا المنكسرة خلف الشمس،وعندالغروب المتهادى كموجة حنون،عبر مجىء الليل الزاعق بالوجع .
انها قصص الرسائل، القصة القصيدة تكتبها لذاتها المجروحة،على عتبات العالم ، تكوثر فيها الروح وتصفّيها وتمزف دمها وثيقة لخلود الحب ،من ثقب يتوسطّ الروح،لتنساب الدماء شاهداً على أهوال المرار،والانتظار الطوبل ،للغائب الذى لايجىء، تقول :
(الانتظار وجع ،لا يعرفه غير المحبين ..
جمرة توقد الجسد ..وترسل دخانها للاختناق
وأنا احترقت حتى آخر قطرة في الكون ).( المجموعة القصصية / الديوان ص 21).
انه وجع الانتظار، التّوق للمحب، المعشوق، النور والنار،وجمر الانتظار الذى يشوى الجسد المتعطّش لسقيا الغائب ،عبر صوفية الحب، عبر العرفان والاشراق ، وعبر شيفونية رقيقة كقطعة حرير ،تشعل الحرائق،والدخان ،الذى يخنق الذات بفعل الغياب الطويل ،دون التفات للوجع للأهوال الساكنة داخل جسد الحب القائظ بالجمرالذى يحرقها /يحرق المكان والزمان والعالم. وهى فوق ذلك حكيمة وفيلسوفة، وعبر الازاحة والمفارقة ، ومخالفة التوقع السردى نراها تستخدم لغة تراسل الحواس ، الصور المركبة ، الاستعارات المكنية والتصريحية، والمجازات المتناثرة كل حين، والكنايات التى تستخدمها لتخفى هذا المحبوب / الغائب عن الأنظار ،لكنها تخبئه في سلة روحها الجميلة، داخل منديلها الصغير ، لتشتم رائحة حبه حينما تخلو الى نفسها في الليل ، الذى يمثل لها مجمع الأسرار ، الذى تبوح له ،عبر الفلسفة التى تنداح من قلمها المضىء بالحب الطاهر العفيف .
انه الحب العذرى الأسطورى،المتخيّل/ الحقيقى/الغائب/الحاضرعبر ثنائيات التخييل والمفارقات ، وكأنها، ليلى،إافروديت، ايزيس، كليوباترا، جولييت ،تنتظر الفارس،ليأتيها على حصان الريح ،يختطفها ويطير هناك في بريّة السكون ،خلف البحر،ما وراء الجبال والسحب ، ليختلى العاشق الغائب ،بالمعشوقة الحاضرة،الباكية بالدموع المالحة،المختلطة بالدماء،وكأنها تعيد لنا زمن الرومانسية الذى افتقدناها ،في ظل جفاف الواقع المادى،الذى نعيشه ، فنراها تصوغ قصصها –القصيرة جداً،ابيجراماتها التكثيفية،السيمولوجية الدّالة،أوالقصص متوسطة الطول،وعبرانزياحات السرد الذى تحاول البوح من خلال تعارضية الأحداث ، الايهام بالسرد، وتحقق معادلة التقاء الشعر بالسرد، لكنها لاتطلعنا علي مكنونها كذلك ، وكأنها تخشى نظرة المجتمع الواحاتى،بل نظرة المجتمع المصرى ،والعربى لمن تقوم بفعل الحب ، وكأنها ارتكبت جريمة كبرى .
ولقد رأينا عبر العصور التاريخية للأدب : الشعر والنثر ،أن التصريح بالحب – حتى من جانب الشعراء القدامى – هو نوع من الخطيئة،التى تستلزم العقاب،حيث لا ” تشبيب “،أو ذكر لملامح ،أو اسم من يحب ،هذا من جانب الشاعر / الرجل ، فما بالنا بالأنثى المقهورة حقوقها في التعبير عن مشاعرها ، أو ابداء الرأى فيمن ستقترن به ،وهى نظرة لازالت تمارس في المجتمعات الصحراوية،وفى الريف الى يومنا هذا،وهى قيود تمارسها سلطة المجتمع القبلى،البدائى،الرعوى،كما أنها لازالت موجودة – للأسف- في كثير من البيئات ،والمجتمعات التى نالت نصيباً وافراً من التعليم أيضاً .
انها نظرة المجتمع للمرأة ، للفتاة التى يجب ألا تبدى رأياً ، أو تعبر عن رغبتها بالرفض ،أو بالقبول،اذ زمام أمرها بيد ولى الأمر ، وان جاءت رغبته على غير ارادتها ،ورغبة الأخير هى التى لها السيادة العليا ،دون النظر الى أى رأى مغاير من جانبها ، وكأنها وعاء يتحكم فيه ولى الأمر، الأب،ابن العم، العادات والتقاليد ،السلطة الذكورية،مقابل اللا سلطة،واللا رأى،واللا ارادة،من جانب الفتاة،أو ربما المرأة التى تتزوج للمرة الثانية أيضاً .
وعبر مجموعتها الصغيرة / الكبيرة، الرشيقة الباذخة ، والسامقة ،نراها تنحت لنفسها أسلوبية خاصة للغة القص/ السرد، تتفرد بها على الآخرين ، أو قل هى اللغة المواربة ، الخجلى، الناعسة، الزاعقة داخل بواطنها ، أو هى اللغة المضمرة للدفء،للحب، للجمال عبر بهاءالسرد الذى يرفو الأوجاع بالصبر،بالانتظار للغائب الذى لايجىء، والذى جاء أخيراً،ولكن بعد فوات الأوان ،بعد أن جف ماء البئر الحرون ،وانطفأت جذوة الحب،وغارت الأقدام ،وآثار الحب خلف ركام وحطام الروح التى تهرّأت بفعل الانتظار، لذا رأيناها – عبر دوامات التشتّت- تنكر عودته ، وتدّعى عدم تذكّره شكلياً ، بينما لم تنسه، ولن تنساه مطلقاً ،اذ حفر له- من قبل- في قلبها نقشاً ،رتقاً سادراً بالروح ،لن تستطيع السنون محوه ، لذا رأيناها تثقب الروح لتخرج دماء الحب الحزينة لهذا الطائر المهاجر / الغريب / الحبيب / البعيد / القريب، الذى جاء في غير أوان الحب كالطائرالغريب الذى يحاول أن يحطّ على عش محبه، وقد ظنّ أنه سيظل في انتظاره طوال العمر، والى الأبد ،تقول معاتبة ، لائمة، مستنكرة مجيئه متأخراً ، بعد فوات الآوان:
( جئت الآن! / تجدّد حبك ؟! / تبغي إعادة ملامحي في ذاكرتك ؟! / أم أرهقك الفراغ ؟! / تأتى بعد غيبة طويلة .. / مستسلمة أنا فيها للاشتعال / أقدامك تخرج من بين الفصول، لم أنسك … لا أتذكرك / هل صرت طيراً مهاجراً حط على مكانه الموسمي؟! ….

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى