الوجه الآخر لشحاته قصة قصيرة للكاتب المغربي حسن أجبوه

كتب :حاتم عبدالهادي السيد
يحظى المغرب العربي بالعديد من كتاب القصة القصيرة الذين حافظوا على مسيرة السرد القصصي، وجددوا في الشكل والمضمون، لتساير القصة القصيرة الواقع الآني المعاصر…
ومن هؤلاء المغاربة القاص حسن أجبوه… ذلك المبدع المخلص للكتابة والأدب..
لقد استطاع حسن أجبوه أن يتخلص من كلاسيكية السرد، ولم تعد القصة لديه تمهيد وحدث وحبكة ونهاية، بل رأيناه يدخل إلى موضوعات السرد مباشرة، ويتقصد في السرد عبر دراما محببة، ولغة مكثفة، وسرد ممتع..
ولنا أن نقدم قصته الجديدة” الوجه الآخر لشحاتة” لنؤكد أن المغرب العربي ثري بكتابه المبدعين….
أتفادى صراخها ونكدها المستمرين بالتجاهل، هو سلاحي الوحيد والفتاك الذي يجنبني الهزائم المتكررة في مواجهتها، في كل مرة تبدأ بإطنابي بأغانيها المشروخة، أصمت وأشعل ماتبقى من أعقاب السجائر واحدة تلو الأخرى، وأتلذذ بمشاهدة شفتيها تتراقصان بكلمات لا أسمعها.. فقد ألفتها عن ظهر قلب :
– إلى متى ستظل بلا شغل ؟ تقاعدك الزهيد لايكفي حتى لشراء حليب ابنك الرضيع، تحرك كما يفعل الرجال، أنبش في الأرض علك تجد كنزا يغنينا عن العوز والفاقة. إلى متى ستظل أمي تطعم أبناءك ؟ إذهب وترجى السيدة كما أقرانك….
منذ أن حلت السيدة ببلدتنا، وأطلقت شباكها على من بالقرية كأخطبوط تمتد أذرعه لتحوط الجميع، بدءا بالنساء اللواتي جمعتهن في تعاونيات لإنتاج ” الارݣان ” يقمن بقطفه وجمعه وتحميصه ثم طحنه وتقديمه بقارورات أعدتها للتصدير. ويتقاضين أجرة شهرية جراء ذلك.. لذا حماتي كانت ومازالت من أشد المدافعات عنها، في كل مرة تزورنا لا تنفك تحمس زوجتي وتتلاعب بدماغها لإقناعها بالعمل معهن..
– للمرة الألف أكررها، أتحدث بتحد ويدي اليمنى تبحث عن ماتبقى من أعقاب علني أفلح بإيجاد مهرب من كلامها.. تلك السيدة ملعونة كل الرجال الذين تملقوها ودلفوا أفواجا إلى عالمها، أصابتهم اللعنة، وتعرضوا لحوادث مختلفة عجلت بمقتلهم، ولك عبرة في أخي الأكبر ! سأظل أكررها :
– إنها قاتلة !
– الموت قضاء وقدر، خير أن تموت وأنت تحت وصايتها ويستفيد أبناؤك من تقاعدك، على أن تستكين بجواري بالمنزل تعد خطواتي. وأخوك الأكبر الله يرحمه لم يقتله أحد. وماحدث له حادثة هو المسؤول الأول والأخير عنها، فالمفروض بالسائق المحترف مراقبة فرامل السيارة قبل ركوبها.. لا تحاول لوم السيدة فلولا الاتصال المفاجئ لكانت ذهبت ضحية الإصطدام مثله. والآن دعني من توهماتك وأخبرني لماذا تمنعني من العمل مثل باقي النساء ؟
أتممت رشف ماتبقى في كأس الشاي، و لعنت في قرارة نفسي الزواج والأولاد والبلدة وكل شيء، نهضت من على الكرسي الخشبي، لبست جلبابي واستشطت غضبا عندما لم أجد الورقة النقدية التي عزمت صرفها بالمقهى!
– ألا يكفيك معاشي؟ تسرقين السنتيمات المتبقية التي كنت أنوي حرقها بصدري ؟
– لو كنت تهتم بعيالك ومتطلباتهم لما حرقت نقودك بالسجائر، وجلسات النرجيلة ! إذا لم تقرر بمصيري سأخلي لك البيت وأذهب لدار أمي ..
خرجت متعثرا في مشيتي. اللعنة على هذه المرأة، ما من حل لدي سوى استجداء السيدة لتقبل بي عاملا عندها! ما الضير في ذلك؟ الجميع يتهافت للتزلف إليها، ربما أفكاري حولها، مجرد هلوسات ومسألة موت الرجال الأربعة، مجرد حوادث عارضة لادخل لها بهم.
استعدت رباطة جأشي لما أقرضني نادل المقهى سيجارة لعينة، استوعبها جوفي كما يستوعب القرش الأسماك الصغيرة. وقفت أمام باب قصرها شاردا متفكرا في الطريقة التي سأبدأ بها توسلاتي. فجأة انفتحت الأبواب على مصراعيها وخرج البواب بشاربه الكث وبذلته السوداء، نظر في وجهي كمن يبحث عن عدو مفترض وصاح :
– السيدة تطلبك، هي تنتظرك بالردهة..
دلفت وراءه مطأطئا رأسي الأشيب، كمن يساق من القطيع لحتفه، عند الباب الزجاجي الشفاف، استلقفتني شابة بعيون شاردة وبذلة قصيرة ناصعة البياض، سرت وراءها حتى أشارت إلي أن أجلس على أريكة جلدية سوداء وانصرفت، بسرعة ودون مقدمات تلقفت علبة للسجائر الشقراء من فوق المنضدة وأخفيتها بجيب البنطلون. لا أدري مادهاني ! وكأن ضميري عنفني، فأخرجتها مكرها، وأعدتها لموضعها متحيرا في موقفي ماذا لو كان بالبيت كاميرات للمراقبة ! عادت الفتاة تحمل صينية مشروبات وضعتها وانصرفت دون كلام. وضعت نصف ملعقة سكر بفنجان القهوة، وبدأت برشفها متحولا بنظري بين اللوحات التي تزين الصالون، بغثة قدمت السيدة تسبقها رائحة العطر الثمين.
– مرحبا بك يا شحاته، من فضلك خذ علبة السجائر ودخن كما تشاء، فأنا التي جلبتها لك.
كطفل مطيع، نفذت أوامرها والعرق يتصبب بغزارة من جبيني، رغم أن القصر به تكييف، وقبل أن أفتح فاهي لأشرح لها دواعي قدومي، قرأت مايدور بخلدي :
– أعرف أنك مرتبك، في الحقيقة كنت أتوقع قدومك من قبل، خصوصا في اليوم الذي مات فيه أخوك الأكبر، لتتهمني بقتله..على العموم، إسمعني جيدا ياشحاته، لا تتوهم إنني لا أعرف ما تتفوه به في البلدة من اتهامات لي، لا تخف لن يكون مصيرك مثل أخيك و أصدقائه الثلاثة، فمازلت أحفظ لك معروفك الذي قمت به عندما صرخت وهرب الجبناء الأربعة الذين اغتصبوا طفولتي..
نعم أنا سعدية الطفلة التي تناوب أخوك وأصحابه لاغتصابي وكانوا ينوون قتلي لولا صراخك بطلب أخيك لكنت في عداد الأموات.
عندها جف حلقي وعادت لذهني الذكريات الأليمة كشريط بالأسود والأبيض..وودت أن أبرر فعلتهم. لكنها قاطعتني :
– تريد أن تتأكد من قتلي لهم؟
تبسمت ابتسامة بلهاء وأردفت :
– لقد نهضت وتعافيت ورجعت خصيصا من أجلكم.
هممت بالانصراف، لكن أحسست بأكف غليضة تضغط على جسمي وتمنعني من القيام..
– إجلس ياشحاته ! وبما أنك عرفت السر، سأتركك تعيش ولكن وفق منهجي.
أنت الآن ، خادمي كما كل رجال ونساء البلدة، لكن دورك سيكون مخالفا لهم، وأجرك بطبيعة الحال أكثر منهم:
ستستمر كما كنت معارضا شرسا لسياساتي ونهجي، ستقول كل ما سأمليه عليك مهاجما أياي بالمقهى وبجلساتكم لتدخين النرجيلة، لا أريد أشخاصا يمدحونني خوفا، أريد معرفة أعدائي المحتملين وهذه مهمتك، سيكون لك ولزوجتك وأبنائك رصيد بالبنك، وكل نفقات البيت ستجلبها حماتك. وانت، استمر كما انت. مفهوم ؟