حاتم عبدالهادي السيد
يحيلنا القاص الأردنى / ابراهيم العامرى في قصصه القصيرة جداً ، أو ابيجراماته ، الى الميثولوجيا – لأول وهلة – والى العودة الى الرمز والحكاية الرمزية ،التى تذكّرنا بقصص كليلة ودمنة التى تمتاح الرمز السياسى لتسقطه على المجتمع والعكس ، ليحيلنا القاص الى الواقع الاجتماعى والقوانين التى تقيد الحريات وتقمع صوت الحرية ، وتجعل من الفرد تابعاً للسلطة ،أو للرمز الذى يمثل النقطة المركزية للديكتاتورية التى تحكم الأنظمة السياسية ، وتخضع البشر وتجعلهم يعيشون بشكل يشبه ” خراف الحظائر ” ، كما يمثل الفيلم الذى عرض للخراف – حالة التخويف والترويع والهلع كى يخيفهم من الخروج من الحظيرة كى لايتعرضوا للمذبحة التى تعرض لها الخراف من قبل ، أولئك الذين فكروا في الخروج من الحظيرة في السابق ، ولم يطيعوا أوامر الراعى – فكانت المذبحة نتيجة لخروجهم عن اطاعة الأوامر ، والسجن الذى وضعوا فيه هو رمز للديكتاتوريات الفاشية التى تجبر الشعوب / الخراف الى تلمّس الطاعة العمياء ، وعدم الخروج على القوانين المتسلطة ، والا فان السجن والقمع والقتل الفردى والجماعى سينتظرهم ، مثل مذبحة الخراف التى أحالنا اليها الكاتب ببراعة شديدة واقتدار يدللان الى عمق رؤية ، وبراعة اسقاط دون أن تطال منه – هو ككاتب – تلك القوانين أو الحكومات أيضاً ، لأنه يتحدث – هنا – عن عالم الخراف والحظائر ، ولم يتعرض من قريب أوبعيد ، للسلطة ، والنظام ، والحاكم ، والقوانين ، أيضاً .
وهذا الأسلوب – في يقيننا – نراه ،عودة جديدة ، وبراعة في استخدام الرمز المثيولوجى للتدليل الى العالم السياسى والاجتماعى لأحوال الأمة العربية ، بل العالم وكل الأنظمة الغاشمة التى لا تستمع لصوت الشعوب ، ولقد استخدم كاتبنا رمزيته على لسان الحيوانات مثلما استخدمها من قبل الفيلسوف والمبدع : ” بيبدبا ” في كليلة ودمنة وكذلك ابن المقفع وغيرهما كى لا يتعرض للعقاب أو تطاله القوانين الغاشمة من جرّاء انتقاده للمجتمع ، من أجل تعديل السلوك المجتمعى تجاه الشعوب التى تحلم بالحرية والفضيلة ، وتنشد العدل ، وتتطلع الى القيم الانسانية السامقة ، كما نلفت الانتباه الى عنوان الاقصوصة / الابيجراما حيث كتب : ” ” حضيرة ” ويقصد بها – فيما أحسب – “حظيرة ” ، فهل هى لهجة ؟ أم تعمية لغوية ، كى لا يتم ضبط المؤلف متلبساً بمن سرق المشار اليه في النص عبر دوال السيموطيقا ومدلولاتها وعلامتها السيموطيقية التى أظهرت لنا عمق رؤية وجمالية أسلوبية عبر ابيجراما تصلح كذلك ” كحكاية رمزية للأطفال والكبار ” الا انها موجهة للضمير الاجتماعى والسياسى بامتياز ، ولمن بيده مقاليد القرار في البلدان والدول والعالم والكون والحياة ، أى يتسع الرمز الى دول العالم ولم يحدد دولة معينة لتظل لقصته الديمومة والاستمرار عبر الزمن أينما وجد التسلط والقمع والاستبداد والظلم في أى عصر ، وهذا استشراف وذكاء من الكاتب وحذر وحيطة منه أيضاً .،وقد صدر للكاتب : أنفلونزا الوحدة وهى المجموعة القصصية الولى له ف المكتبة العربية .
ونحيل القارىء هنا عبر ابيجراماته القصيرة الى اكتشاف ذلك بنفسه ، لنشركه معنا في القراءة النقدية والقصصية ،عبر تشاركية حميمية ،في محاولة منا لتجديد شكل ومعنى ومبنى النقد الأدبى الآن .
1- حضيرة :
بعد ارتفاع سعر النفط، وتعرض صاحب تاجر المواشي لخسارة فادحة، بسبب كساد السوق، وحلول اللحم المستورد المجمّد، بدلا من خرافه الطازجة. قرر التاجر أن يشدّ الحزام، وأن يستخدم خشب حظيرة الخراف كوقود في هذا الشتاء. لكن فكرة ترك الأغنام دون سياج خطيرة، واللصوص كثر، والذئاب قريبة، والخراف نفسها ستختار البرية والمساحات الواسعة، التي لا تقيّد رعيها. ففكر التاجر بطريقة تضمن له الخشب والإبقاء على الخراف مجتمعة في الوقت نفسه. كان حلّه ذكيا؛ إذ أحضر شاشة كبيرة مسطحة وعرض على الخراف فيلما بعنوان ( خارج الحظيرة) الفيلم يروي مذابح جماعية لخراف تعيش خارج الحظائر.
********
وفى ابيجرامته / قصته : ” ثعلب “
يحيلنا القاص الباسق / ابراهيم العامرى الى الحكمة التى تقول : ” يظل الثعلب ثعلباً وان انتوى أن يتوب الا أن طبائعه تغلب محاولته للتطبّع والامتناع عن الافتراس ومداومة محاولاته الماكرة في الدهاء والخبث والانقضاض على الفريسة بالتآمر ، وهى حكاية – كسابقتها – تصلح لأن تكون للأطفال الا ان رمزيتها واسقاطاتها الميثولوجية تحيلها الى مصاف القصص السياسية التى تنتقد الواقع الاجتماعى هنا لحياة البشر الذين يظنهم الانسان قد تابوا وأنابوا فاذا همو كما هم لأن ة خلق مجتمع الفضيلة من جديد وتثبتاً لمنظمة القيم الانسانية الباسقة والباذخة والنبيلة أيضاً .توبتهم لم تكن مؤكدة ،وغير صادقة حتى لو تغير المكان والزمان ولبس الانسان قناعاً مغايراً فسيظل كما هو اذا لم يكن هناك صدق حقيقى في المواقف ، وتلك لعمرى رؤية حكيم يعمد الى اعادة خلق مجتمع الفضيلة من جديد ة والى طبيعتهم الشرسة نراهم يعود،وكذلك تثبيتاً لمنظومة القيم الانسانية الباسقة والباذخة والنبيلة أيضاً ن وهى كذلك رؤية كاتب يعارض المجتمع بفضحه للمارسات التى يقوم بها البعض لكسب مكانة مغايرة لواقعهم عبر الميثولوجيا ، أو قناع الفضيلة والزهد الذى يتشدقون به وفى أول فرصة وبسرية شديدة نراهم يعودون الى طبيعتهم البشعة في المراء وممارسة الخديعة والمراء والقتل فاذا ما ظهروا للناس تحلوا بالزهد والتقوى والفضيلة ، وهذا يذكرنا بماا قاله أمير الشعراء / أحمد شوقى عن الثعلب في شعره القصصى حين قال : برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا الى أن يقول : ” مخطىء من ظن يوماً أن للثعلب ديناً ، اذ الثعلب هو ثعلب ولو لم يتثعلب !! .
2- ثعلب :
( الثعلب الصغير وقف أمام المرآة في هذا اليوم ولم يفكر حينها أن يكتشف جمال ذيله الناعم مثلما تفعل أخته الصغيرة، ولم يكن يري في نفسه أية معالم للافتراس. كان يحاول أن يقنع نفسه أنه ليس ثعلبا، قد يكون سلحفاة أو أرنباً، أو حتى كائناً بحرياً يعيش في بقايا سفينة. وبينما كان منهمكا بالتفكير في هذا الأمر، قرر أن يترك عالم الافتراس، ويسكن قريبا من حقل الكرفس الذي يبعد مسافة غير بعيدة عن القرية. فحزم ملابسه وترك الوكر رغم تحذيرات الأم التي لم تفلح معه كلّ محاولانها لمنعه من ذلك. وفي طريقه لوجهته جاع الثعلب الصغير، ولحسن الحظ رأى حمامة مكسورة الجناح، لا تستطيع الطيران، فالتهمها على عجل، وأكمل السير) .
******
وفى قصته : ” حكاية “
يحيلنا المبدع الرائع / ابراهيم العامرى الى الغابة وخشخشة العشب والخوف من مجهول وأفاعى وذئاب وحيوانات مفترسة فاذا به يفاجىء بليلى الانسانة في حضن الذئب المتوحش يجمعهما حب وعشق رومانسى متد ليسقط الصورة عن وحشية الذئب ويعيد له صفات انسانية مغايرة تجعلنا نسقط ما سردناه سلفاً عن طبيعة الحيوانات المفترسة والغادرة كالثعلب ، فالذئب أكثر وحشية من الثعلب الا أنالحب قد أحال استذئابه الى حيوان أليف وودئع يحتضن الفتاة في مشهد عناق يشبه عناق البلشون في هيامه وانفصاله عن الواقع الانسانى الذى فرت فيه الفتاة من عالم البشر الى عالم الحيوان تتلمس الحب والوفاء والدفء بعيداً عن الواقع المادى / الأيديولوجى الذى فرت فيه ليلى الجميلة الى الذئب وكأنه يعيدنا الى المثيولوجيا وعالم الأسطورة من جديد ولكن بشكل أسطورة ابيجرامية قصيرة تختصر الحياة الانسانية وتختزلها في جملة أو موقف أو كبسولة أو توقيع ابيجرامى تكثيفى يشى بجمالية تكشف عن تملك الكاتب لقاموسه اللغوى ودلالته المنتقاة عبر الكلمات ومتوالية السرد المتهادى كبحر ينساب على سرة المرمر الميتافيزيقية واللاميتافيزيقية عبر جدلية العلاقة بين عوالم شتى تجمع الحقيقة بالحلم بالدلالة السيموطيقة والرمز الجميل الذى يكشف عن عوالم انسانية جديدة ومساحات أخرى للحب لم نكتشفها عبر أسطورة الذئب وليلى في المخيال التصورى للحب الذى يطوع المتوحشين ويرضخهم له ليخرجوا من عالمهم المادى الى الحلم والخيال وسدم الكون الممتدة عبر الكون والحياة وهو بهذه الأقصوصة الرائعة يحيلنا الى ذواتنا لنكتشف الماهيات الأولى للذات والعالم والكون والحياة .
حكاية :
كنت أمشي في الغابة، واسترعتني خشخشة في العشب، خفت، تناولت حجرا وعصى، قد يكون الذئب أو أفعى جائعة، أو يكون أحد المجرمين الهاربين، وقد يقتلني. كانت الخشخسة تزيد وتنقص، وكنت أسمع لهاثا وشيئا من الهمس. استجمعت قواي، اقتربت قليلا، تسللت عبر العشب بتؤدة، كانت ليلى بحضن الذئب في عناق حار، وعلى ما يبدو أنهم هربوا من الخرافات وأعين أهالي القرية.
وفى النهاية : لقد آثرنا طريقة غير نمطية في تناول قصص الكاتب / ابراهيم العامرى الرائعة ، وعلى بساطة السرد يبدو عمق المعنى والمبنى عبر لغة يغزل من صوف مفرداتها عالمه / عالمنا ، ذاته / ذواتنا ، وكأنه يعيد رتق خرقة العالم كصوفى ينشد الحق والفضيلة وقيم الانسان السامقة الباذخة التى تدلل الى كونية سرده وتجديفه الى مابعد الحداثة بسرعة وبمهارة وبهدوء ، وانسيابية تدلل الى كاتب مفعم بالأمل والعشق والحلم ، يتوضأ بالحب وينتقد الواقع لينشر السلام في العالم الممتد الأرجاء .