الراوى حاتم عبدالهادي السيد يكتب : قراءة لكتاب في انتظار موسم الريح ..ودور الشعر في المغرب العربى
يحيلنا الشاعر المغربي الدكتورأحمد مفدي في ديوانه : ” في انتظار موسم الرياح ” إلي ما ورائيات المعنى عبر فلسفة ذاتية تنحو إلي التصوف تارة، وإلي الذات والعالم تارة أخري، وإلي الواقع المعاش، وعالمنا العربي والإسلامي كذلك، عبر حس عروبي قومي، ونزوعات نحو الرمزية واستلاب دواخل الروح بما يجعل القارىء – منذ بداية الديوان – يقف منتبهاً، فنحن أمام شاعر يمتلك القريض والبيان، ويمسك بزمام جواد اللغة ليصنع من حروفها عجينة الخلود الكوني، يتماس مع الذهن والروح، ويقتلع المعنى من شموخ الصور، وسحر المعاني، فهو شاعر تفعيلي – ما بعد حداثي- يعيد تثوير المعاني ويُثوَّرها في قلوبنا فتنطلق ثورة الكلمات مع صهيل الحروف، وهو–عبر العنوان – في انتظار موسم الرياح- يحيلنا إلي فضاءات الريح العاتية، ولم يقل مثلاً : في انتظارالفجر، فالرياح تدلل إلي معاني القوة، وهو ينتظر تلك الرياح لتجتث الظلم والرهبوت من العالم، فالرياح دليل العواصف التي يستتبعها الغبار والإنذار بالمطر القادم والثورة، حيث الوطن، يخاطبه ويعاهده، ويكلمه، يقول :
( يا وطني….
لَنْ تُضْمَـرَ فِي شَـفَـتِي كَلِمَاتُ الْعَصْفْ….)
( وَالْحَرْفُ إِذَا شَعْشَعَ فِي أَعْمَاقِ السَّـحَـرَهْ …..
لَنْ تُطْفِئَهُ أَمْوَاجُ النِّطْعِ وَلَا أَسْيَافُ القتَـلَـهْ…).
إنها ريح الثورة المقبلة، الغضب الساطع، آيات وأوراد الثورة، يمزجها بحس متصوف يقرأ ” أوراد الثورة القادمة “، يقول :
لَـمَّـا سَـمِـعَـتْ ( أَسْـمَـاءُ ) مُـرُورَ قطيعٍ
يَفْظَعُ فِي سَطْـحِ ( الصَّرْحِ / الْقَفْرِ ) عَـشِـيًّا
كَـانَ يُرَتِّلُ فِـي جَـبَـلِ الْآبَادِ بِـقَـرْيَـتِـنَـا
أَوْرَادَ نُـزُولِ الـحَـرفِ كَـصَـاعِـقَـةٍ…..
تَـحْـكِـي آيَـاتِ الثَّـوْرَةِ.
وشاعرنا هنا يُغيِّبُ الرمز خلف ظاهر المعني، ويكسو قصائده بغلالة من مرموزات التصوف الذاتي، عبر المحبوبة المقدسة التي يطوف علي خلجانها، ويسوح معها في رحلة عشق مغاير، عبر” مقولات قروية ” يغلق فيها الرموز لتصدح اللغة عبر تراكبات المعني ومقابساته، ومخاتلاته، فهو يعرج مع الحبيبة،عبر العاذلة، وكأنه ينكر أي معني مُضاف، فالكلام للعاذلة وليس له، عبر رحلة العروج إلي أنثي الذات وتقوقعاتها، وعبر متخيلات المعني عبر الصورة والظلال، والمعاني الثواني، وعبر ما بينيات الصور، وما خلف دوال المعني تجيء القصيدة شامخة، عبر لغة ثرية مكتنزة، ذات دلالات منفتحة علي التخييل والمعجم الجميل الملغز لشاعر ينسج من عباءة اللغة تصوفها هي كلغة، أولاً، وجمالياتها الكامنة في ترميزاتها غير المتراتبة، وكأنه يُشظي المعني عبر حقول دلالية وسيميائية، ودوال سيموطيقية تدور حول معانٍ تفضي إلي مُستغلقات وتناصات سياقية ،وأطر لا ميتافيزيقية، عبر فيزياء اللغة الجميلة التي تشعرك بشموخ، وحيرة، فتعيد القراءة من جديد، يقول :
قَالَتْ عَاذِلَتِـي:
كُـنْ فَـرْدَا….
فِـي رَضْـواكَ وَلاَ
تَـخْـشَ ــ مِـنَ الـنَّـاسِ وفِـي اللَّـهِ…..
وَفِـي يَـدِكَ الـمِـشْـكَـاةُ
مَـتَـى سِـرْتَ عَـلَـى الـمَـمْـشَى ــ أحَـدَا…..
وأَنَـا أَعْـبُـرُ شَـوْطَ الـمَـرْوَةِ
حَـتَّـى صِـرْتُ بِـعَـيْـنَـيْـكَ صَـدَى…..
فَـتَـأَمَّلْ…..
إِنْ كُـنْـتَ تُـحـبُّ الـمِـعْـرَاجَ لِـمَـلْـقـانَـا…..
هَـلْ تَـدْرِي أَنِّـي
فَـاتِـنَـةُ الأَعْـطَـافِ وكَـاشـفَـةُ الأسْـرارِ لِـمَـنْ
سَـوَّى الـسَّـوْرَةَ
ثُـمَّ يَـكُـونُ. الـنَّـجْـدَانِ كَـمَـا كَـانَـا…..
سَتَـرانِـي عِـنْـدَكَ أَسْـكُـنُ غُـنْـجَ امْـرَأَةٍ…..
حِـيـنَ ( الـقَـوْمَـةِ )
فِـي ظَـلْـمَـاءِ الـوَادِي أَوْ أَسَـدَا……
تُحْـكِـمُ فِي الْحَيِّ رِتَاجَ الْبَابِ غَـدَا….
عِـنْدَمَا تَـغْـشَـى
فِـي نَـجْـوَاكَ سَـتَعْلَـقُ
مِخْلَاةُ الْعَلْـفِ بِأَعْنَاقِ جِيَادِ السَّبْقِ فَـيُـمْـسِـي
شَـبَـقُ الـخُـنَّـاسِ هَـبَـاءً مُـرْتَـعِـدَا….
عِـنْدَمَا تُوقَدُ نَارٌ
فِي أَغْصَانِ الْحُزْنِ الْمَكْسُورَةِ
تُـشْقِي مَنْ شَاكَسَ غِرْبَانَ الدِّمَـنِ….
فَـهُـنَـاكَ تَـرَى عَـجَـبـًا:
شَطَـحَاتِ النَّهْبِ…..
وَعَـيْـنُ الـعَـاشِـقِ تَـبْـكِي مِـنْ وَهَـنِ.
وشاعرنا يُغَلِّقُ مقصدياته عبر مرموزات سياسية وترميزات واستدعاءات تاريخية لنيرون وهامان، النمرود، ومن عقروا الناقة ” ناقة صالح عليه السلام” وكلها مرموزات لظلم الحاكم والسلطان والملك، ولقسوة وبطش من حوله، وهو هنا يجابه الجبروت، وينتقد الطغمة الحاكمة ويعصرهم، لكنه لا يستطيع الجهر إلا من خلال ” تغييب الرمز” وكأنه يصنع ” أحجيات الملك داود”، عبر لغة التصوف وهيوليتها، ويبحث عمن سرق المُشار إليه في النص، فالدال لا يفضي إلي مدلول، والمدلول تستتبعه رموز ومستغلقات، عبر صور غاية في الأناقة والشموخ، فاللغة هي البطل الذي نلتف حوله، لنستلهم منه معاني الشموخ والثورية،وما خلف ظاهر المعني هو المعني المراد، وكأنه ينشد ما بعد حداثة المعني ليعيد القاريء لفك بنيوية الشيفرات، وتفكيكها، وحل الرموز المُبتغاة، يقول :
لَـمَّـا سَـافَـرَ فِـي عَـنَـتٍ
مَـنْ فَـقَـدَ الـصَّـحْـبَ ولاَ
يَـتَـمَـلَّـكُ في الـمَـسْـرَى مُـلْـتَـحَـدَا….
هَـلْ يُولَـدُ مَـوْلُـودٌ
فِـي مَـأْوَى ( الـنَّـيْـرُونِ) الـمَـوْؤُودِ
ــ جـثِــيًّا ــ بِـالسُّـفْـرةِ
شَـابَـهَ ( هَـامَـانَ ) كَـأَنَّـهُـمَـا
(طِـيـنَـانِ ) اتَّـحَـدَا….!؟
يَـمْشِي مُـحْـدوْدبَ ظَـهْـرٍ
غَـالـبَـهُ الـعِـصْـيَـانُ فَـأَمْـسَـى الـغَـيُّ بِـهِ مُـتَّـقِـدَا…..
كَـيْـفَ تَـقُـولُ لَـهُ :
خَـفِّـفْ عَـنْـكَ عَـنَـاءَ الـحِـمْـلِ وَسِـرْ
مُـتَّـئِـدَا….
قَـالـتْ : يَـا سَـيِّـدَ مَـنْ أهْـوَى…
هَـذَا. الـخُـنَّـاسُ الآفِـكُ / يَـلْـهُـو /
يَـعْـبَـثُ / يَـنْـقُـرُ / فِـي اللـيْـلِ /
نَـواقِـيـسَ الـبَـابِ /
وَيَـسْـطُـرُ فِـي لَـوْحِـهِ إِمْـرَا….
هَـلْ تَـدرِي
مَـنْ سَـوَّدَهُ فِـي الـظُّـلْـمَـةِ قِـرْدَا….!؟
فَـتَـمَـلَّـكَ فِـي تَـاريـخِـهِ إِ صْـرَا…
هُـوَ. ( نَـمْـرُودٌ )…
تَـعْـرفُـهُ ( الَـعَـرَّافَـةُ ) فَـاحْـذَرْ ….
الـمَـارِدُ يُولدُ مِـثْـلَ شُـواظِ النِّـقْـمـةِ
يَـبْـذُرُ مَـيْـسُـورَهُ عُـسْـرَا…
يَـمْـشِـي فِـي الـحَـارةِ مُـلْـتَـفِـتَـا…
يَنْطُفُ ثَـلْـجـًا / نَـارًا /
مِنْ مُقَـلٍ تَـجْـحَـظُ فِي نَافِذَةِ الصحراءْ….
لِـتَـرَى كَـوْكَـبَ نَـارٍ وَجِـمَـالاً حُـمْـرَا….
تَـتَـمَـطَّـى فِـي عَـيْـنِ الـشَّـاعِـرِ قَـرْيَـةَ مَـنْ
عَـقَـرُوا ( الـنَّـاقَـةَ ) ظُـهْـرًا…..
تَـبْـدُو لِلْـعَـاشِـقِ ظُـفْـرًا….
يَخْدِشُ….
يُـسْـرِجُ خَلْفَ غُبَارِ الوأْدِ جِـيَـادًا
كَـانَـتْ تَـحْـرُسُ أبْـطَـالَ ( الـبَـلْـقَـاءْ )…