سيميّاء التراجيديا الانسانية في العراق وسيموطيقا الغربة والحنين أحزان جسر أوكونل
كتب : حاتم عبدالهادي السيد
تعبر بنا العراقيةزينب سلمان فى روايتها : ” أحزان جسرأوكونل “ .. الى عالم السيميائية ، عبر رحلتها التراجيدية من العراق الى دبلن، ثم تعبر الحدود كلاجئة الى ايرلندا الشمالية ، وبين الغربة والوحدة والهروب والخوف والتشريد وصحراء التيه والأحلام العاجزة والمشاريع غير المكتملة ؛ توزع زفراتها على المنافى والمدن ، وتعبر عبر حلمها المموسق الى عوالم السيميائية وربما الى مجهولية تفضى بها الى سراب ،أو أمل تحاول التشبث به ، فلربما تعود يوماً من المنفى الى بوابات الوطن الذى نهشته الصراعات المذهبية والعرقية والحروب والدسائس والمؤمرات كذلك ، أو هى تحاول ايجاد وطن بديل وأصدقاء جدد ،وعالماً وان بدا غريباً وغامضاً وسديمياً ، الا أنه ـ كما نرى ـ خيارها الوحيد للهروب الكبير ،أو المنفى غير الاختيارى الذى اختارته بعيداً عن العراق .
هذا ويجىء العنوان معبراً عن ذاتها المأزومة ،حالتها الحزينة على جسر الأمل الذى تحاول ايجاده ، لتعبر بأحزانها من مجهول ينتظرها في العراق ،الي مجاهل تنتظرها في منافي العالم ، حيث اللجوء والتغريب والوحدة والخوف ، وهي الفتاة التي تحاول رسم ملامح القوة ، والايحاء والثقة بالذات رغم نحافة جسدها المتهالك …
انها أحزان نساء العراق ورجالها الذين تاهوا في طرقات المعالم وأزقة المدائن ، اللائذين من الخوف بالمجهول ، ومن السجن داخل الأوطان والقتل والتشريد ، الي سجن الغربة وجلد الذات بعيداً عن الأهل والأصدقاء والذكريات الخ ..
انها مأساة الشعوب ، وظلم الحكام ، وفداحة الاستعمار ، وقهر سدنة الأنظمة الشمولية من الطغمة الحاكمة للشعوب التي تنشد الأمان والحرية والعدل والعيش في سلام ، ولكن هيهات للأقدار أن تعطى الانسان ما يريد فى أغلب الأحوال ، فسحقاً للظلم والرهبوت ، اذ رأيناها تفرر من ظلم السجن والسجان والقهر ، الي سجن الزمان والمكان والتوهان عبر العالم والكون والمدائن الغريبة .
ـ 2 ـ
ان الناظر لروايه الكاتبة زينب سلمان يستشعر مرارة الحزن منذ أول وهلة لدال العنوان ومدلولاته الرامزة ، فهي تعبر بنا من المدلولات الي الدوال ، ومن الدوال الي المدلولات ، عبر العلامة السيموطيقية للجسر ، أو الأمل الذي تتشبت به ، أمل الحياة والخلاص ، من عالم غريب هو الوطن تستشعر فيه الوحشة والظلم والقهر ، الي عالم تطأ خطاها فيه لأول مرة ، وحيدة علي عتبات العالم ، يطمع في جمالها الغرباء ، ويتربص بها ذئاب البشر الذين يتحينون الفرصة لاطفاء شمعة الأمل لديها ، أو نسمة الحياة التي ترجوها ، كاللائذة من الرمضاء بالنار ، وهي في كلّ صابرة ، تحاول أن تجد لقلمها نقشاً في أبجدية العالم ، عبر لوحاتها التي تستدعيها من ذاكرة الماضي الذي ربما لن يعود مرة أخري .
ـ 3 ـ
تبدأ الرواية برحيل سلمي من العراق تاركة رسالة حزينة لحبيبها ” عاصم “ـ صاحب الشخصية المرموقة في مجلس الوزراء ـ .. تترك عاصم لتهرب من مجهول ينتظرها ، حيث رفض أهلها الاقتران به ، ومع حبها الجارف نراها تترك المكان لكي لا تجلب المشاكل والنكبات لأهلها ، ومع هطول الرسالة بدموعها ومرارة الفقد ووجع البعاد ، الا أنه لامفر أمامها سوي الهروب الكبير ـ كما أري ـ ، هروب الذات والانسحاب من مجابهة الواقع خوفاً علي الأهل من جهة ، ولظروف العراق والحرب مع الأمريكان ، وظلم المحتل والمجتمع من جهة أخرى .
انها رسالة مموسقة ، تدلل الي أننا أمام شاعرة وليس روائية فحسب ، بل نحن كذلك أمام عاشقة تغزل حروف حبها من صوف القلب الذي تشعله لتتدفأ بين السديم بحطب حبها المحترق ، حيث الحب يلغى ويفكك كل العرقيات واختلاف المذاهب الدينية والأعراف ليذيب العاشقين فى بوتقة الحب الانسانى الخالص ، الحب الذى يسمو بالذات المحبة الى عالم التصوف والعشق عبر سرمديات العالم ، تقول لعاصم في رسالتها : ” في كل مرة ينهض حبك كطائر خرافي من بين الرماد ..أترقّب خريفاً آخر لأودعك فيه ، مثلي ومثلك قد خلقا في الغياب ” . ( الرواية ص : 7 )
انها فلسفة السرد التي تعبر بنا عبر مكياج اللغة الي جماليات سامقة وباذخة ،عبر فلسفة الوجود والعالم ، والكون والحياة ، وفلسفة الذات التي تتماهي علي لسان الساردة /البطلة / سلمي ، لذا لاغرو أن تصوغ فلسفتها الخاصة من خلال تجاربها الموغلة فى الحزن ، حيث غربة الزمان والمكان عبرعالم الحياة ، تقول : ” كل البدايات تحمل نهاياتها علي أكتافها ؛ نراها ونحس بها ، لكننا نتجاهلها بالصلوات والأدعية والدموع كأننا نستجدى فى القوة الغيبة على تغيير ما هو محسوب ومكتوب بالمنطق ، ولا نعى أنه لو تغير ما هو منطقى يحصل خلل فى المنظومة الكونية كلها. (الرواية : ص : 9 ) .
تحكى الرواية عن هجرة سلمى الى ايرلندا الشمالية ، حيث احترام حقوق الانسان واللاجئين من كل دول العالم ، أولئك الذين يحملون قضايا الاضطهاد والظلم ، وهناك تقابل ” سيد ” ، ذلك المثقف والروائى المصرى الذى هاجر هرباً من ظلم المجتمع حيث الفقر وعدم وجود عدالة اجتماعية وهميمنة طبقة على مقدرات الأمور ،هو اذن يهرب من مجهول الى مجهول كذلك ، وهناك يلتقى المحزونان عند جسر أوكونل … تلتقى سلمى بسيد مصادفة اثر تهجّم كلب المرأة الانجليزية عليه ، ليبدأ لقاء المصادفة ،أو لعبة القدر ،فألمرأة تريد أن تعتذر للشاب ” سيد” ، ولكن يبدو أنه لايفهم اللغة فتتقدم سلمى لتترجم له أسف السيدة ورغبتها فى تعويضه ، وهنا يبدأ لقاء التعارف فنجدها تدعوه لتناول فنجان القهوة معها فى احدى المقاهى ، لتبدأ رحلة تعارف كبرى تقول الرواية : ” تمشيا على ضفة النهر التى قادتهم الى زحام المدينة عبر شارع أوكونول ثم دخلا الى مقهى ” كاليمور ” ثم تجولا فى المدينة … أخبرته عن أهم معالمها : المتحف المتوسط ، المجلس البلدى الذى يقيم حفلة موسيقية … “.. (الرواية ص : 15 ).
وعندئذ بدأ حوار فلسفى ثقافى أيديولوجى بينهما عن الحرب العالمية الثانية وسقوط الأنظمة الفاشية والديكتاتورية والعسكرية ، وعن فرض الدول المستقرة هيمنتها على الدول المهزومة : وعن السياسة والاقتصاد ، تقول ” ان الحرية هى السبب وراء كل ما وصلت اليه تلك الشعوب ، فالفرد حر بما تعتقده وبما يفعله الى أن تصطدم حريته بحرية الآخرين عندئذ يتدخل القانون لتنظيم حرية الأفراد ويحميها ” . ( الرواية :ص:15 – 16 ).
ثم تكتمل الرواية بأن يخبرها سيد بعدم معرفته بأى شىء هنا ، كما أنه يبحث عن ” موتيل ” يستأجره ،فنراها تسير معه وتحجز له حجرة ، الا أنه قد أصر – كعادة الشرقيين – على توصيلها الى منزلها ، وعندما أدرك أنه لن يستطيع العودة الى الموتيل لأنه لايعرف اسمه أو عنوان الشارع ، أو ربما أراد أن يمكث هناك ليتعرف الى تلك الفتاة الباذخة ، فنراه يقضى ليلته فى العراء بالقرب من كراج سيارتها ، لتبدأ لتبدأ قصة جديدة لحب ” سيد وسلمى ” .
هذا وتتكىء السادرة /الراوية على اظهار الشخصيات الثانوية لروايتها ، كصديقتها ميادة ، ومبيتها لديها فى برلين الشرقية ، لتجدها ترفل فى براثن عشيقها ” اياد ” الذى قدمته لها على أنه زوجها ،وكذلك ” سندس ” ، تلك الفتاة التى وصفتها بأنها : ” متأصلة بالغربة منذ عشرين عاماً ” ، وكذلك عند ذهابها لمكتب اللجوء السياسى ومقابلتها تلك المرأة الباكستانية التى وضعوها معها وأطفالها فى غرفة اللجوء ، غرفة فى فندق خمس نجوم لكنها رفضت الاقامة معها لطقوسها الخاصة ، أو لربما لحياتها الأرستقراطية التى عاشتها والتى كشفت عن جانب منها للممرضة أثناء فترة اعيائها داخل مكتب اللجوء ،حيث قالت للممرضة : كان يشبّه أهلى نومى بنوم العصافير لأننى أصحوعلى صوت سقوط الندى . ( الرواية ص:82).
ثم نراها تسرد لنا وقائع الذل والمهانة ـ فى نظرها ـ لتلك الاجراءات البيروقراطية التى تضع اللاجىء فترة ليتم بعدها السماح له بالحصول على تأشيرة الاقامة والموافقة على اللجوء ، ودراسة أسبابه بدقة ، ثم تعود بنا الساردة – عبر تقنية ” الفلاش باك ” -الى حكاية هجرتها الى ايرلندا بعد أن أعطاها ” اياد ” عشيق ميادة عنوان : ” رجل ايرلندى عجوز وزوجته ” ، من أصدقائه ، وهناك ذهبت لتقابلهما : “جون ” العجوز الفنان ، وزوجته ” ماريان ” وهناك فى القرية الهادئة ، وجدت الدفء يسرى من جديد فى احدى بقاع الغربة الشاهقة ، ولقد فرحت الأسرة الايرلندية بالصديقة الجديدة ، اذ كان جون عاشقاً للموسيقى ، ثم نراها تصطحب ” سيد ” الى منزل جون وزوجته حيث اكتشفت يومها أن سيد مثقف كبير ،يعرف عن الموسيقى والثقافة الموسيقية أيضاً ثم تبدأ فى سرد حكاية رحلة سيد المرهقة للحصول على حق اللجوء السياسى وهناك يقابل ” نوزاد ” الشاعر والكاتب والمثقف العراقى فتنشأ بينهما صداقة حميمة فيحكى له حكايته مع سلمى ويعرّفه عليها فى احدى اللقاءات ، فتعجب سلمى بثقافة ” نوزاد ” كما أن تاريخهما العراقي المشترك ، ورحلة التغريب واللجوء يتشابهان معاً الي حد كبير ، فكانوا مثلما وصفت : أحبة تائهون لديهم مشاريع غير مكتملة لأحلام عاجزة ينتظرون الأمل لانقاذهم من براثن القهر والسجن والتنكيل ، أو العودة الي مجهول غامض ، مثلما هم الآن في مجهول ممتد ، عبرسراديب الغربة ، ومنافي اللجوء في أرجاء العالم الممتد .
هذا ويبدأ ” نوزاد ” اعجابه واهتمامه بسلمي مما أثارغيرة سيد لأكثر من مرة ، حيث بدأ يضيق به ، وتأتي الصدمة في حياة سيد عندما ترفض مفوضية اللجوء طلب سيد وتقبل طلب نوزاد ، وفي هذا الوقت كانت سلمي في عملها الجديد بعيدة عنهما بمئات الكيلو مترات ، وتم رحيل سيد الي منطقة نائية حيث غابات الحزن وأحراش المجهول وهناك خارج ” دبلن ” يقابل سيد (جينا ) الراقصة البولندية الشقراء ، تلك الفتاة الرائعة الجمال ، حيث وجدناه يقع في براثنها : يعاقرها الخمر والجسد والشراب ، ثم تسوء حالته فيتعرف الي الكثيرات من راغبات المتعة للأجساد العطشانة ، وتتوالي الأحداث لتعود سلمي الي دبلن وتكتشف ماحدث فتعود أدراجها والصدمة تتملكها ، تعود الي عملها وفي الاجازة نراها تذهب الي روما ، لتحاول نسيان ماحدث ، وهناك تتعرف الي ” جيرارد ، وزوجته شارلوت ” ، اذ كان جيرارد يرأس الجمعية الكونية للفن التشكيلي فوجدناهما يتفقان معها – بعد أن عرفا أنها فنانة تشكيلية – أن يقيما معرضاً عالمياً للوحات الجمعية لتعرض هي لوحاتها كذلك ، ثم تعود لتجد أن السلطات ستبدأ في ترحيل ( سيد ) ولم يكن أمام سيد لانقاذه من الترحيل ـ حسب القوانين هناك ـ سوي الزواج من فتاة تحمل اقامة ، فتقبل سلمي أن تتزوج من سيد لكن بشرط ألا يمسها ، اذ كان ـ زواجاً شكليا ـ كما اتفقا ، وهنا تبدأ علاقة الحنين والشبق لجسد سلمي تتفتح في عقل سيد الي أن يواقعها في حجرة المرسم ، وهي كارهة لذلك .