بعدحريق سنترال رمسيس: المصريون سددوا بالمروءة ..في زمن الدفع الإلكتروني
الحريق أوقف الخدمة.. لكن الشعب أعادها بإنسانيته

كتبت: رانيا سمير
لم يكن يوم الحريق الذي شبّ في مبنى سنترال رمسيس يومًا عاديًا، بل كشف – بطريقة لا لبس فيها – مدى اعتماد حياة المصريين اليومية على التكنولوجيا، وبشكل خاص على الخدمات الرقمية والدفع الإلكتروني، لكنه في المقابل، أظهر شيئًا أكبر: معدن هذا الشعب، وقت الأزمة.
في اللحظة التي توقفت فيها شبكات الاتصالات، وسقطت أنظمة الدفع، وتعطلت خدمات الإنترنت في القاهرة الكبرى ومحافظات أخرى، وجد الآلاف من المصريين أنفسهم فجأة بلا قدرة على استخدام بطاقاتهم البنكية، ولا على الاتصال بأحبائهم، ولا حتى على تحديد موقع أقرب ماكينة صراف آلي. ومع هذا، لم يكن العنوان الأبرز هو “الشلل الرقمي”، بل “الشهامة الحيّة”.
أكلت وشربت وركبت… والمديونية بالحب
“يوم الحريق، كلت وشربت وروحت زي الباشا بأوبر، ومدفعتش ولا جنيه”… هكذا بدأ “أحمد” تدوينته، التي سرعان ما تحولت إلى لسان حال عشرات الآلاف ممن تضرروا من الحادث. الشاب الذي يعمل في مجال التكنولوجيا وجد نفسه – كما كثيرين – غير قادر على الدفع بعد تناوله وجبة في مطعم بالدقي، فقد كانت جميع أجهزة الـPOS خارج الخدمة، ومعها ماكينات الـATM.
لكن المدهش أن مدير المطعم لم يتردد للحظة، وطلب من زبائنه ببساطة: “اتفضلوا.. ولما الدنيا تشتغل ابقوا حوّلوا”، رافضًا أن يُثقل على أحد أو يُحمّلهم الحرج.
وتتكرر الحكاية، ولكن هذه المرة على الطريق. أحمد أراد العودة إلى منزله، فطلب سيارة، ثم أخبر السائق أنه عاجز عن الدفع. “هتروح إزاي؟ اركب بس”، قالها السائق، مضيفًا: “الدنيا مطارتش.. ابقَ ابعتهم لما تقدر”.
الجدعنة عملة وطنية
وفي قصة أخرى، كتبت مي شاهين أنها ذهبت برفقة شقيقتها لشراء بعض المستلزمات، فاكتشفت عند الدفع أن كل الخدمات الإلكترونية متوقفة. قالت للمالك إنها لا تملك المبلغ المطلوب كاملًا نقدًا، فأجابها بابتسامة: “خدي اللي محتاجاه، ولما تشتغل الخدمات ابقي حوليهم”.
نهلة رفعت، شابة كانت في السجل المدني لتجديد بطاقتها، فوجئت أن ماكينة الدفع لا تعمل. سألت شابًا يقف بجانبها عن أقرب ماكينة، فأخرج من جيبه مئة جنيه وأعطاها لها دون أن تسأله. “رجعت لهم الفلوس بعد ما اشتغل إنستاباي”، تقول نهلة، مؤكدة أن “الشهامة لسه عايشة”.
أحمد عايد أيضًا حكى أنه ملأ سيارته بالوقود، ثم اكتشف أن بطاقته لا تعمل. فقال له مدير المحطة: “مرّة جاية ابقى ادفع، الدنيا مش طايرة”. وحين أصر أحمد أن يعطيه 300 جنيه نقدًا، أجابه: “خليهم معاك.. الطريق مالوش أمان”.
التحول الرقمي على المحك
التهم الحريق جزءًا من مبنى الاتصالات المركزي في رمسيس لم يُسبب فقط توقف الخدمة، بل كشف عن هشاشة البنية الرقمية في البلاد، وعدم جاهزيتها الكاملة لأي طارئ. آلاف الشركات توقفت أعمالها، مواطنون لم يتمكنوا من شراء طعامهم، وآخرون لم يعرفوا طريقهم بدون خرائط الهاتف.
ورغم أن فرق الطوارئ في وزارة الاتصالات، كما صرّح الوزير عمرو طلعت، بذلت جهودًا جبارة لإعادة الخدمات جزئيًا خلال 48 ساعة، إلا أن الكارثة ألقت بظلالها على أسئلة محورية: ماذا لو تكررت؟ وهل لدينا بنية رقمية مرنة بالفعل؟ وأين خطط الطوارئ البديلة؟
جدعنة لا تنسى.. وتقصير لا يغتفر
وفي حين أضاءت تصرفات الناس العادية يومًا عابسًا بشهامة لا توصف، لم يغفر كثير من المصريين لجهات رسمية تأخرها في التوضيح، أو في تقديم خطة طوارئ شاملة.
“نفسي كل مسؤول يتجدعن معانا زي ما الشعب اتجدعن”، كتب أحدهم، في دعوة صريحة للمسؤولية والاحترام المتبادل.
ربما كان الحريق مؤلمًا، لكنّ أثره الإنساني كان دافئًا. لقد عاد المصريون يتذكرون بعضهم في عز الأزمة، وفي زمن رقمي بارد، كانت الإنسانية هي أكثر ما اشتغل.