بريد الليل والأدب العالمي المعاصر( الرواية الحائزة جائزة البوكر 2019م )

بريد الليل والأدب العالمي المعاصر( الرواية الحائزة جائزة البوكر 2019م )
كتب :حاتم عبدالهادي السيد
أى بريد لليل هذا الذى تخبرنا بوصوله الروائية اللبنانية / هدى بركات فى روايتها : ” بريد الليل ” ، وهل يختلف عن بريد النهار ، حيث رسائل الليل تحمل الغازية : حبيب ، سر غامض ، رسالة مهمة لايريد صاحبها تبليغها الا فى الليل ، اذ النهار له عينين – كما يقولون فى الأمثال لدينا ، اذن ما حكاية بريد الليل هذا ، وما تلك الرسائل الغامضة الليلية التى قد تأتى خفبة ، وهل ثم لا انتظار حتى يجىء النهار ؟! .
انه بريد الحب ، بريد الزمان عبر المكان ، بريد الذات التى ترى العالم ،رسالة موجهة الى الانسانية الشائهة ، الى مجتمعاتنا التى تحب الليل ، وتعشقه ،اذ فيه مواجد العشاق ، واجتماعات الناس والسمر الممتد .
وفى الرواية ، تبدأ الحديث بالرسائل : عزيزتى … ،عن القرية التى محاها السّد ، عن الحب الموجود بين أهالى القرية ، وعن ركوبه القطار،السهر، الليالى الحمراء مع العاشقة المشتهاة ، باسم التمدين والحضارة ،حيث القيم الليبرالية المنفتحة ، وحيث الغرائز تفتح مساحة للعهر ،دون فضيلة للقيم ، أو للأديان ، يقول : “ألست كائناً متخضراً يحافظ على غرائزه ” .الرواية : ص10 .
هى الوحدة اذن ،التحررمن قيود الأسرة ،كراهية الماضى ، اجتراره لأحزانه ، للعاملة القاسية له من جانب الأم ، الغرفة التى استأجرها، وأحالها مرتعاً للحبية ،و للعاهرات ، وغير ذلك.
وتبدو مسيرة السرد لديها أكثر انفتاحاً ، وتحرراً ، فنجد الحديث عن الدورة الشهرية ، بشكل صادم، وكأن ذلك من مظاهر التحرر والتحضر .
ان هدى بركات ، الراوية ،تسرد تفاصيل السيرة الذاتية ، وهى فى القطار ، حيث تنتقل الرسالة من الـ هو، الى الـ هى ، وتلك الثنائية قد تشتت القارىء الذى يعنيه التتابع الهارمونى التسلسلى للأحداث ، لكنها أرادت ذلك ، ولنا أن نوافقها حرية الكتابة ، لكننا نشير الى خلط قد يداهم القارىء ، دون تمهيد لذلك ، وهذه أولى نقائص الرواية ، وليست مزيّاتها – فيما أحسب –التلقى يجب أن يكون مسايراً لهارمونى السرد ن دون ازاحة فجائية، وتحول لوجهة السرد فهو يحكى ، فتتحول الحكاية اليها ، وقد كانت تحتاج الى تمهيد أولى للقارىء ، حتى لو فى المقدمة ، أو كان لها أن تحدث ، عبر الالتفات ، والازاحة ذلك ، وتمهد لقارئها الطريق المعبدة كى يتواصل مع مسيرة السرد الذى أمامه ، لا فى مخيلتها ، كما فعلت ، فرأينا انتقال الحديث عن الابنة المشردة التى أرسلوها الى التعليم ، ولم يسألوا عنها فقط ، الاحين ماتت الأم . اتصلوا ليخبروها ،وهى قالت : البقية فى حياتكم ، ومعنى ذلك أنها فقدت الأسرية تماماً ، نزعة حب الأم ،وأصبحت وحيدة مشردة ، أو متحضرة ، ربما !! . حتى ان جاء الحديث لدى السارد على لسانه فى الرسالة ، الا أن هناك ضبابية تشوب مسيرة السرد منذ البداية ، وهذا الأمر والخلط فى الأسلوب دون تمهيدية يحدث اشكاليات لدى القارىء المتذوق ، والناقد أيضاً.
ان مفردة القطار تستدعى لدينا غربة ما ، هروباً ، انسحاباً ، ففعل البعاد موجع ، حتى لو كان سفراً عادياً ، فا بالك بمن تسافر لا لتتعلم فحسب ، بل لتهرب من عدم الاهتمام ، ممن قسوة الأم ، فهى تهرب من المكان ، لتضيع فى العالم الآتى الغريب .
انها رواية الروح ، الجسد ، عبر الرسائل التى تشرح أدق تفاصيل المعاشرة الجنسية ، دون سرد فنى كذلك ، ولكن يبدو أنه التحضر الذى لا نعرفه ، والقيم الجديدة على مجتمعاتنا ، فأنا لا أرفض الجنس – بالطبع – فى الرواية ، ولكن هذا التابو ، يجب أن تتم معالجته بفنية أكثر سموقاً ، فهو ليس عيباً ، ولكنه هنا سرد مبتذل ، يخدش الحياء ، والذوق العام ، وان كان يخاطب الروح لكاتبة فى تصوير حالة الرجل الذى ينظر لصاحب الرسائل / الحبي الحكاء ، والذى ظنه أحد المثليين الذين يتابعونه من نافذة الغرفة المواجهة ، ية أنه يراقبه ممن قبل موظف الجوازات الذى رفض اعطائه أوراق ثبوتية لتجديد الاقامة فى ذلك النفى الذى لجأ له هروباً ممن قهر المجتمعات والحكام بعد الثورة ، فى الدول العربية ، ومع ذلك فقد كانت هناك الكثير من المشاهد الايروتيكية الباذخة ، والتى تتقبلها الذائقة كالحديث عن الغرام ،وشهوة المضاجعة لديه ، بينا كانت تبحث عن خدمة ما بعد البيع من جانبها .
انها الغرفة / العالم ، عالمه ، نزواته معها ، قلقه ، غامراته النسائية المتكررة ، عبر الرسائل التى تحكى بصراحة ،وانفتاح وتحررية السرد ، الرسالة ، الاسترجاع الداخلى ، الاستبطان ، تعرية للذات ، للجسد ، للسلوك غير السوى واللهفة لأفخاذ النساء وأثدائهن . فهو كما يعلن عاهر، ومفلس ، يريد أن يقضى الحياة هكذا ، باسم الحرية والتحضر. فهو فقد الهوية ، منفى بدون أوراق اقامة ، هائم فى العالم ، تائه ، شائه ، مريض ، يبحث عن نزوات افتراضية ، أو حقيقية ، لكنه فى الأصل لايعرف ماذا يريد ، له قيمه الخاصة ، وفلسفته الذاتية الغريبة ، يبرر سلوكياته غير المألوفة ، ويحيلها الى الجينوم البشرى ، جيناته الخاصة ، ومعركته الكبرى مع الذات والعالم ، يقول : ” أن أغار عليك لا يعنى أنى مغرم بك ، انها مسألة بين الذكور ، تنافس على حجم الخصيتين ، بمعزل عن موقع الأنثى الواقفة فى المساحة المشتركة لأى من الذكريين ،هذه فى جيناتى . ولا أريد فى معركتى مع العالم أجمع أن أحارب جيناتى أيضاً … لماذا انا فى معركة مع العالم أجمع ؟ لا أعرف اسألى العالم . ربما لاحساسى بأنى فى معركة ولاأملك أى سلاح . وكلما خرجت عدت مليئاً بالكمدات ، لست مسالماً ، لكنى لم أجد مصدراً يسلّمنى سلاحاً ، والأدهى أنى ضعيف البنية ،ولا أجرؤ على ضرب أحد . اذن ، أنا ضعيف ،وجبان ،ويرتد غضبى علىّ مضاعفاً “. ( الرواية : ص22 ) .
انها مأزومية الذات تجاه نفسها والعالم ، تجاه الآخر الغريب ، الذى يفترض أنه يتربص به ، كالرجل الذى فى الشباك المقابل ، وهو ركون واستسلام للانهزامية ،لهذه الشخصية المنزوية ، الخائفة ، القلقة طوال الوقت ، والبائسة التى تتشبث بالأنثى كمعادل تعويضى عن النقص ، عن القهر النفسى للتربية ، عن النظر الى الكون والعالم من منظور المتربص الذى يريد تلبّسه ، أو نفيه ،ومحوه ، أو الدخول معه فى معركة ، حتى لو كانت مع المجهول / الأشباح / الهلاوس ، والقلق الذى ينتابه ، ويعيشه طوال الوقت / الهاجس المجهول الذى فى الأفق ينتظره فى كل مكان يذهب اليه ، لذا فهو لايريد أن بخرج من الحجرة الى الشارع ، كى لا يصاب بالكدمات / الهزائم الصغيرة ،التى تضاف الى هزائمه وانكساراته المتكررة .