وليد علاء الدين وتاريخ العرب

وليد علاء الدين وتاريخ العرب
كتب حاتم عبدالهادي السيد
لعل روعة رواية ” كيمياء : للكاتب المصري / وليد علاء الدين تأتى –هنا- من ذلك الاستخدام الشاهق ، السلس ، المتناغم للغة عبرالسارد / الراوى العليم / الكاتب ، الذى يتماهى مع الأحداث ، ويشركنا فيها ،فتكون المتعة مضاعفة ، ينتضمها عقد هارمونى قشيب ، لشاعريّة السرد ، وجلال اللغة ، وسموق معمارها الشائق ، الشيق ، المثير ، القلق ، الهادىء ، المثير ، عبر تسارع الأحداث وتلاحقيتها ، والتى تجعلنا ننجر ، نكرّ اليها ، دفعة واحدة ،على حد تعبير السائق الأسكندرونى،وأمه الكردية ، فى وصف مناقب مولانا ، حيث أنه : “أول طريق الحج ، وصاحب البركة والكرامات الباذخة” .
انه السارد ، الشاعر / الصوفى التائه ، الباحث عن الحقيقة واليقين ،نراه قد ترقىّ ليصعد الى الحلم ، الى المعارج ، الى مروج شيفونية، أكثر بهاء ، واختيالاً ، وكيف لا ، وهو المحلق فى سماوات الحلم / الذات / الارتقاء ،عبر أفق الصوفية الجليلية ؟!.
انها ” كيميا” ، التى رآها ، والتى انتظرته طويلاً – كما يذكر – وكأنه يعيد انتاجية الأدب الصوفى ، الفيزيائى ، التخييلى ، والأسطورى أيضاً بصورة معاصرة .
وعبر تبادلية السارد العليم ، الحكّاء ، نراه عبر هارمونية السرد الممتع، يعبر بنا عبر المثيولوجيا ، والسيمياء ،الى فيزيائية السرد ، الى عالم الأسطورة ، أسطورة الذى طار،حلّق،ارتقى المروج ، اذ هو الملاك الحارس ، والصوفى التائه ، والبدوى العاشق الأخير !! .
انه يحيلنا الى الغازيات السرد ، الى شيفرات سوريالية ، ليست تركية ، عثمانية ، ولا لاتينية كذلك ، انها طلاسم الحقيقة ، اشراقاتها التى توحّد معها عبر اللغة البهية الطازجة المختلطة بسرد غرائبى ،ليحيلنا الى مروج الدهشة التراكبية ،عبر الصورة والظّل ، الانسان والقرين ، الذى يلازمه ، وعبر رسائله مع نورى ،نستطيع الجزم بأننا ” أمام رواية تختلط فيها الرسائل مع أدب الرحلات ، مع المغامرات ، مع السيرة ، داخل أروقة الذات / التاريخ / تركيا المشرقة / المكان / عالم الصوفية السيميائى ” .وهى رواية يختلط فيها العام بالخاص : السياسى بالتاريخى ، والواقعى مع التخييلى ، والحقيقة مع ظلال الواقع الأثيرى ، ويصوغها لنا عبر لغة تنثال من ذاكرة سارد عارف بالتاريخ ، وأقانيم الذات الهادرة فى أفق العالم ، وبأسلوب يعلن فيه عن اقتصاديات اللغة المائزة،واشراقاتها العرفانية ، النورانية ، عبر التراكب ، وحمولات الأسلوبيات التى تنيرأفق السرد ، وحقوله الدلالية،واشتقاقاته المتباينة.
انها “كيميا” ، فتاة الرابعة عشر، التى تتزوج شمس ، الشيخ الذى جاوز الستين ، بينما قلبها يهفو الى علاء الدين ابن مولانا ، ذلك الفتى النبيل الذى جذب قلبها المشرق ، لأنواره الطالعة من جبال البراءة المشرقة . وهو كسائح جوال نراه على عتبات جلال الدين الرومى مع الداخلين الى ضريحه المهيب المكسو بالذهب والمخمل ، والمطرز بالحرير ،حيث العطور والبخور ، وصوت الناى ، الذى يجعله يعلن بأن الزمان يقيم هنا ،مع المكان ،حيث الجو الصوفى الايمانى المهيب ، والذى يعبّرعن تجليات البهاء ،واشراقات الجمال النورانى التى تخفق لها القلوب لتتطهر ، وتذوب ،عبرالعشق،والصفاء الروحى للايمان الخالص،المشعّ ، لصاحب المقام ، المولوية ، ومؤلف كتب ” المثنوى “، و” الديوان الكبير “، و كتاب:” فيه مافيه ” ،كما أنه الشاعر،وصاحب الكرامات الكبرى .
وعبر المراقبة والمشاهدة ، وهى من أصول وأسس مدارج ،ومعارج المتصوفة ، نراه يرقب المكان ، يصفه ،بفيزيائيته، وتفاصيله المدهشة . عند الضريح يقابل ثريا – رفيقة الرحلة – وبصحبتها مرشد ، مترجم ، شرح لهما تفاصيل المكان حيث ضريح مولانا وابنه : ” سلطان ولد ” ، وزوجته وقبور كثيرة لخلفائه ،ومريديه المقربين ، لكنه لما باغته بالسؤال عن قبر “كيميا” بدت دهشة الرجل ،واستغرابه لمعرفته بها ، لكنه أجاب بعدم معرفة أحد هنا بمكان قبرها ، فلربما تكون مدفونة هنا ، أو فى مكان آخر !! .
وعبر الالتفات يحيلنا السارد الى مشهدية أخرى توقظنا من تتابع مسيرة السرد ، أو لاحداث تشاركية / تداخلية بين المعاصرة والتاريخ ، – عبر الرسائل والتقارير الصحفية – فنراه يقطع تتابعية الحداث ليحيلنا الى طلب وليد من ثريا أن يلتقطوا صورة جماعية لهم أمام المولوية لضريح مولانا جلال الدين الرومى معاً .
كما تبدو جماليات السرد فى التساؤلات التى تجعلنا ننجذب وراءه عبر الحكاية الجميلة ، فهو يندهش لموقف الشيخ المحب العاشق ، الشاعر ، من موقفه من أمر كيميا ورفضه تزويجها لابنه علاء الدين ، واهدائها لشمس ، وكأنه يقدمها قرباناً للمحب ، للغريب ، لشمس العجوز الطاعن فى السن ، يقول 🙁 كيف لشاعر حقيقى ، وصوفى عاشق أن يقدم طفلة قرباناً لاستمرار علاقته بمحبوبه ؟ وكيف اختفت كيميا هكذا وكأنها لم تكن ؟ لماذا لم يتأسف الرومى على موت قربانه الرقيق ؟ لماذا عاشت نكرة وماتت مجهولة القبر،وهى الموهوبة التى تبنّاها ،وتربتّ تحت سقف بيته ، لتتلقى العلم على يديه ؟ لماذا أهداها لشمس ،رغم علمه بالحب الذى جمعها بابنه علاء الدين ،ورغبة الأخير فى التزوج بها ؟ لماذا لم يزوج الرومى شمساً بابنته الحقيقية ” مليكة خاتون ” ،رغم علمه بالحب الذى جمعهما بابنه علاء الدين ورغبة الأخير فى التزوج بها ؟ لماذا لم يزوج الرومى شمساً بابنته الحقيقية ” مليكة خاتون ” طالما يحبه هذا الحب الكبير ؟ وما موقف والدى كيميا ،من تحويل ابنتهما الى هبة ،لرجل يكبرها بأكثر من ثمانية وأربعين عاماً ؟ صحيح ياثريا ما وضع المرأة فى عقيدة العاشق الأكبر ؟! ) الرواية ص : 67 ) .
وعبرمسروديات الرحلة الكونية ،الصوفية الكبرى ، يعرض لضريح الشاعر / محمد اقبال الذى عرّفنا بالرومى ،وبأشعاره الجميلة ، التى تأثر فيها بوهج الرومى ، والذى جعل اقبال يقول : ” لقد حوّل الرومى طينى الى جوهر،ومن غبارى شيدّ كوناً آخر ” .(الرواية ص :70 ).
انه الروائى الباحث عن قبر كيميا ، عاشق لمعرفة تفاصيلها ، يتماهى معها فى الخيال ،ويعيد انتاجية سيرتها ، يقول : ” لا يوجد قبر على شكل فراشة ، سلام عليك أينما رقد جسدك الهشّ ياكيميا ” ( الرواية ص :71 ) .
وفى رحلة البحث من بلخ فى فارس ” ايران ” ، الى تركيا ، تبرز تساؤلات عن وضع كيميا – كما يشير، فالرومى فارسى الأصل ،من مدينة بلخ ،التى تقع على حدود أفغانستان ، والذى انتقل مع والده الى قونية بدعوة من السلطان علاء الدين ، ولقد جاء أبوه هرباً من اجتياح التتار، أو لخلافه مع الرازى ، كما يقال ، بينما كيميا كذلك من المدينة ذاتها فى أفغانستان ” .
انها كيميا خاتون ، الدرة اليتيمية التى أغفلها الرومى فى أشعاره،وسقطت من عباءة شمس التبريزى كذلك ، لكنها ظلت فى الذاكرة الشعبية الايرانية كرمز ، وفى الأدب الشعبى التركى ككيان مقدس لأنها ابنة مولانا ،التى احتضنها لتتلقى العلم ، فنراه يقدمها – بقسوة – قرباناً لمحبوبه ، شمس ، لتظل سيرتها أسطورة للباحثين ، والهاماً للمبدعين ،والروائيين !! .
انها “قونية “، مدينة التاريخ والحضارة ،البلدة العظيمة ، وموطن ” جحا ” وحكاياته الشهيرة ، أيضاً . وبين عمورية وأنطاكيا ،ومدن الدولة السلجوقية ، وحكايات الأتراك، والايرانيين، تظل “كيميا “هى الكيمياء : المعادلة الشهيرة ، واللغز الأسنى، لوليد علاء الدين ، للسارد العليم ،الذى يبحث عبر أفق الرواية / التاريخ / المكان / الحكاية / التخييل عنها ، ليعيدها الى ذاكرة الأسطورة ، ومرموزات التاريخ الأشهى ، وللحضارتين الفارسية ،والتركية كذلك .
انها رواية المثيولوجيا ، الأصوات التى تأتيه من خلف حجاب، لتخبره عن كيميا ومصيرها ، يكلمه الصوت : ” كيميا روح ذبحها مولاهم ..بسيف شمس ” …. ” كيميا نور ” .( الرواية ص : 86-87 ) .
انه يحكى لصديقه أحمد ،عبر رسائل الأنترنت حكايته هو ، حكاية الرحلة ، الأرواح التى تطارده ، يقول : ” أنا فى قونية تطاردنى أشباح يقودها علاء الدين بن جلال الرومى ، لم يجد غيرى ليدله على قبر كيميا حتى تهدأ روحه . لم يعد الأمر مقتصراً على الأحلام والأطياف ، بالأمس صافحتنى كف رجل حدثنى بصوت علاء الدين ، وحين استدرت وجدت امرأة أوروبية تحتضن طفلتها على حجرها ، لك أن تتصور مدى خجلى وفزعى وارتباكى .( الرواية ص : 103 ) .
انها رواية يخلط فيها الكاتب / السارد بين الحقيقة والحلم ، أو هكذا شبّه له ، رأى ، تفتحت له طاقات النور،ليخشّ الى عمق التاريخ ، يعيشه بتفاصيله ، يتمثّل ويتجلّى له علاء الدين ،ليرشده الى قبر كيميا . لقد كتبت روايات عديدة عن العشق الالهى ، رواية :” بنت مولانا ” كتبتها الانجليزية : ” مورل مفروى ” ، ورواية :” قواعد العشق الأربعون ” للتركية : ” اليف شافاق ” ، وهو هنا يعرض – بصورة جديدة للسرد ، وبخطابية ، للروايتين ، ويقارن بين أحداثهما الروائية ، والتاريخية ليجدد لنا رحلة البحث عن العاشقة الصغيرة كيميا اليتيمة ، الأسطورة التى غابت مع انتهاء القربان !! .
انه يبحث عنها هناك ، بين جبال الأناضول ، وجبال الألب الكبير،الذى يمتد من المحيط الأطلسى الى جبال الهيمالايا ، يبحث بين الأضرحة،والأشجار،والسهول ، فى البوسنة والهرسك ،والجبل الأسود،فى جبال السلاجقة،وفى كل مكان،عبر براثن الحلم ، التاريخ ، العالم ، ليظهر لنا شخصية :”كيميا ” ، التى ظلمها التاريخ ، كما ظلمتها زوجة مولانا”كيرا خاتون”،وظلمها شمس التبريزى ،ومولانا جلال الدين الرومى أيضاً . حيث لم يذكرها فى أشعاره ،ولو باشارة واحدة !!