الراوى حاتم عبد الهادى يكتب :قراءة تحليلية لرواية السراديب المدينة

الراوى حاتم عبد الهادى يكتب :قراءة تحليلية لرواية السراديب المدينة
يعد الروائى والشاعر سامى سعد فيلسوف الرواية التى تؤطر للمكان عبر أطراف مدينة العريش ، ولقد أصدر العديد من الروايات التى تؤطر للمكان ،منها رواية :” تلة الذئب ” وروايته: ” السراديب ” ، وفى هذه الرواية الشاهقة الأثيرة يحيلنا الراوى، السارد الى المكان في مدينة العريش ، عاداتها وتقاليدها،حيث السراديب ،أو “المواصى” كما يسمونها هناك . وهى منطقة منخفضة من الأرض يتم زراعتها بالنخيل ، وبالخضروات،وهى على هيئة الحفرة الكبيرة، أو السرداب داخل الأرض .اذ يسكن الأهالى هناك في بيوت من الطوب اللبن ، أوفى عرائش ممتدة عبرالخلاء ،يصيدون السمان ،ويزرعون النخيل والخضروات ثم يتسامرون بالليل،ويعيشون حياة الفطرة الخالصة . كما يعرض لنا معاملات الناس للبنات ، يكتفون بالرضوة – ارضاء البنت بمبلغ ،أو تجهيزها للعرس، لكنهم لا يعطونها ميراثها الشرعى، في الأرض ،أو المال، فالمرأة لا تستشار في الزواج ،الا أن فاطم قد كسرت في الرواية كل التقاليد ،ورفضت أن يمسّها زوجها الذىأجبروها على الزواج منه ، فاضطر لتطليقها ،لتتزوج من “القاهرى ” ،الذى نزج ليعيش في المدينة ،وأراد أن تكون له أسرة بين العرايشية ،ولقد نجحت المرأة باصرارها وكفاحها ،فى الوصول الى امتلاك ارادتها ، وتزوجت رغم معارضة الجميع انتفيما ليتم كسر التقاليد البالية .
كما تتعرض الرواية لحكم الانجليز، حيث”جارفس بك”،المحافظ الانجليزى ، الرجل العادل الذى كان يحب أهل سيناء ،ويتقرب اليهم ، كنوع من سياسة العدو – فاعتبروه الأهالى الكبير الذى يذهبون اليه ،لحل أى نزاعات قبلية كبرى تقع بينهم،وهو يتدخل – في الغالب – دون حاجة الى طلب منه .كما يحيلنا الى التراث المادى والمعنوى للمدينة :عادات أهالى مدينة العريش، في اشعال النار ،وعمل اللصيمة،وانضاج اللحم في الصباحية والعرس،ومواسم تصنيع العجوة، والشقيق،وتخزينه للعام القادم،والى مواسم الزراعة ،وصيد السمان،والأسماك من البحرالأبيض المتوسط ، على ساحل العريش، وفى بحيرة البردويل ، وحيث قطار الشرق الذى يمر من المدينة الى فلسطين جالبا البضائع المصرية الى الشام وتركيا وأوروبا .
كما تحيلنا الرواية الى نكسة 1967م ،والى حرب 1973م ، كما تظهر لنا ممارسات العدو الاسرائيلى منذ فترة الاحتلاومروراً المقاومة الشعبية ،وعدم تعامل الأهالى مع حكومة جيش الاحتلال ، كما تتعرض الرواية للحياة الشفاهية القبلية التى يتعامل بها الناس،ومدى الصدمة التى واجهوهها من الادارة المصرية بعد معاهدة كامب ديفيد،وعودة سيناء ، وموقف السادات حين قال : ” عفى الله عما سلف ” ، كذلك تتعرض الرواية الى بيروقراطية الادارة عندما عادت سيناء في تعاملها مع ملفات كثيرة مثل :توثيق عقود الزواج والطلاق والحيازات والأملاك وشهادات الميلاد وغيرها ،بما يعكس تحولات المجتمع السيناوى من حياة العائلات والقبلية وقانون البادية، الى الحكم المدنى ،وقوانين الدولة ودستورها،وهو الأمر الذى لفت انتباه الدولة مؤخرا ،حيث السيناويون على فطرتهم كأغلب شرائح مجتمع بادية سيناء،لا يذهيون الى أقسام الشرطة أو المحاكم ،ولا يحتاجون في معاملاتهم المدنية الى الحكومة في شىء ، يقول :
( يا خال، حكومة دينها ورق .إذا أردت أن تحمل شبكتك الصغيرة وتنزل البحر يلزمك تصريح، إذا أردت أن تقيم ركائزك وتنصب غزلك يلزمك تصريح، إذا رغبت في بيع بلحك أو زيتونك لازم ورق، ما هذا؟ ما ناقص والله يا خال، يوم أن يُهب عليك المزاج إلا أن تذهب إليهم وتأخذ تصريحاً لتركب الحرمة !. أم المصائب كما يقول الزير: لو سرت في طريقك في أمان الله وأوقفك شرطي ولم تكن معك الهوية، ها قد دخلنا أخيراً في دفتر أوراق الحكومة، وصارت لنا أرقاماً لا نعرف عددها ولا نعرف كتابتها، وما علينا حين يطلبونها غير أن ندفعها في عيونهم: خد يا باشا. لقد صار ذلك عسراً على أهل الشريط، هم الذين اعتادوا الحياة شفاهة ،ولم يقيموا لعالم الورق أهمية، كما أن هذه الأوراق تحتاج إلى مشاوير، لا يعرفون من أين تبدأ وإلى أين تنتهي: حتى عربة الكارو يريدون لها ترخيص وأوراق! هذا آخر الزمن والله).
انه صراع الشفاهية والكتابية ، صراع التحولات عبر الأطر المجتمعية ،دون النظر-من جانب الدولة- الى تمهيد لهذه التحولات، ومع ذلك فقد تحمل المواطن غباء البيروقراطية،وظلمها المستبد .
انها الرواية التى تعكس اللهجة العرايشية ومفرداتها التى كادت أن تغيب الآن ، فنراه عبر” فلسفة الحياة”،يعيد انتاجيةالأمثال والحكم،والمأثورات الشعبية،ويضمنها السرد الرشيق،يقول : “ولا قلب خالى من الهم، حتى قلوع المراكب” ،وأيضاً : ” لمين أشكى موجع القلب لمين، وأنا مالى على البلوة صديق يوافى، غير البكا والجض والنين،ساعات أبكي، و ساعات أهيل الدمع من مقلة العين، وساعات ألطم على كفافي” ، أو يقول على لسان جبريل –أحد أبطال الرواية – : “أى والله يا جبريل:أخت الخوّاضة، خوّاضة “الناقة المدربة على خوض الماء ،لكن يا ولدى: الدقن اللى ما تجود، تنغصب ” ما لا تعطيه جوداً و كرماً، قد تعطيه قهراً و رغماً ).
انها رواية العريش ، حكايتها عبر المكان ، وروعة السرد للتفاصيل التى توثق سيرة الزمن عبر المكان الفطرى،المثيولوجى،الرامز، يقول الراوى، السارد، المؤلف،تفاصيل الحكاية عبر السرد اللهجى الرشيق لتفاصيل المكان الدقيقة، للحياة الأخرى ، لعالم المكان الشاهق : (يذهبون ويأتون، سكان المواصى، لكن عيونهم لا تغيب أبداً عن التحديق فى هذا الشاسع الأزرق: البحر.أه يا خالتى، لقد قلت لك من قبل أنه غول كبير، لكن رزق الغلابة فى جوفه. هؤلاء الذين يغرسون بذورهم فى السراديب، و يروونها بماء التمايل حملاً على الأكتاف، وينتظرون بفارغ الصبر أن تشق البذرة سطح الرمل، وحين تهل عليهم بازغة من التراب، تلمع بوارق الفرح العميق فى العيون الكليلة، يعدون الأيام والليالى، يعرفون لكل زرع ميعاد حصاد ونضج، الخيار أربعون يوماً وتؤكل، البندورة ستون أو سبعون يوماً وتحلب منها، تتكاثف اللهفة لديهم لرؤية عود أخضر، يعدون أوراق النبات بشغف، يقولون: هانت، صار على ثلاث ورقات، وحين يصلح عود جرجير أو رأس بصل للأكل، يخلعونه برحمة فائقة، يحدقون فيه ملياً، يضربونه على ظهور أكفهم برفق، تنظيفاً له من حبة رمل أو أي شائبة، لا يغسلونه أبداً، ليش نغسله يا ولدي؟ بطن الرمل أنظف من بطن ابن آدم. سيأكلون ما تجود به الأرض، وهم دائمى الحمد، ينتظرون المواسم بلحاً كانت أو صيداً للسمان، بذر الشعير بعد سقوط مطر الصليبة، أه هكذا الدنيا تمضى، لكن هذا الأزرق الشاسع يحيط بحياتهم من كل اتجاه، وفى المارس المعروف لكل عائلة فى الشريط، مساحة توازى هذا المارس على البحر، حيث ترقد مراكبهم الخشبية وأدوات صيدهم من غزل ومراسى و طاولات خشبية سميكة. من رجال العائلة الخبراء بالبحر والصيد يشكلون مجموعة الجرفة ( ربما نسبة إلى الشباك التي تجرف ما يصادفها في الماء ) لن يزيد العدد عن عشرة أفراد، أولئك الذين يذهبون بالفعل على سطح المركب إلى أقاصى الماء، يغيبون يوماً أو أياماً، لا أحد يعرف الوقت ” أنت ونصيبك يا خال ” ثم يعودون بما قسّم الله من رزق. لهذه المجموعة من الجرفة قائد، يكون أبرعهم بالمسار فى عرض البحر، مواجهة التيارات، هجمات الوحش، التعامل مع الريح، اصدار ما يلزم من أوامر حين اللزوم، دون مناقشة من أحد( لا ديموقراطية في البحر ) أو كما يقولون: ما هى مناسبة لطق الحنك. أثناء ذهاب الرجال للجرفة تتعلق عيون أهل المواصى بالبحر، يحملون فوانيس صغيرة، ويحدقون طوال الليل فى البحر ربما ينوس ضوء مركب عائد، ربما يأتى صوت هادر من هناك، ينتظرون عودة الرجال والسلامه من الله، وعندما يصلون إلى الشاطئ يكتظ البحر بالرجال والنساء والأطفال وعابرى الدرب، يقذفون بالحبال الغليظة أولاً ناحية البر، يلتقط أطرافها من يقفون على الشاطئ، ينقسمون إلى صفين يربط كل منهم نصيبه من الحبل على خصره، ويبدأون فى الجذب الشديد: يا الله، يا قوى، هات ما عندك) .
انهها عبقرية السرد ، المكان ، يعيد انتاجيتها بفطرة شديدة ، وببساطة تفاصيل تجعلك تخش الى قلب الاحداث ، تعيشها بتفاصيلها ، وسحرها الأثير .
انه الروائى ، الشاعر ، الفيلسوف الذى يغزل من صوف المفردات عباءة السرد الساحرة ، حيث المكان هو البطل عبر الرواية الشاهقة ، والزاعقة في سراديب الذات والكون والعالم والحياة .