حاتم عبدالهادي السيد..عضو اتحاد كتاب مصريكتب:قراءة تحليلية ل” سيرة الزير سالم “
حاتم عبدالهادي السيد..عضو اتحاد كتاب مصريكتب:قراءة تحليلية ل” سيرة الزير سالم ”
يمثل فن السيرة الشعبية أحد مقومات التراث الثقافي والحضاري للأمم والشعوب؛ وهو تراث يوجه الأمة وينمي الهوية الجمعية للعقل الشعبي المتمثل في كون الجماعة الشعبية لها تماثلات فكرية وثقافية متماثلة؛ فما بالنا بمجتمعات قبلية تمثل فيها البداوة أساسًا للتعاون والتعايش والحياة كمجتمع سيناء الممتد عبر التاريخ والحضارة ؟! .
لقد استطاع الكاتب والباحث السيناوي مسعد بدر أن يقدم لنا السيرة الشعبية برواية أبناء سيناء؛ عبر لهجة بدوية مغايرة؛ تتناقلها الألسن في شبه جزيرة سيناء ؛ لكنها تختلف عن السيرة الموجودة في بوادينا العربية التي قرأت رواية الزير سالم والتي تجسد البطولة الشعبية والتراث وحياة البدو والحضر ومعالم الرحلة و؛ وعير ذلك؛؛ ولقد رأينا أنموذجًا مماثلاً لها في سيرة أبو زيد الهلالي.
وهناك فرق بين السيرة الذاتية للأفراد والأشخاص المعروفين والمشاهير؛ وبين السيرة الشعبية التي أُشتهرت؛ ولاكتها الالسن وتغنت بها وحفظتها؛ فالأولي تمثل الذاتية والفردية؛ بينما تمثل الثانية مسيرة الأمم والشعوب لتجسيد معان وقيم وأسلوب حياة الشعوب والأمم؛ وهي ملهمة للنشء وللجماعة الشعبية بين القرى والمدن كذلك. كما يجب أن نفرق بين سير الأبطال العرب في الحب كسيرة عنترة العبسي؛ وفي الكرم مثل سيرة حاتم الطائي وغيرهم؛ وبين السيرة الشعبية التي يعرفها الكثيرون ويحفظون أحداثها وشخصياتها؛ فهي بمثابة رواية الشعب؛ وثقافته المحلية وعالمه التخييلي الملهم؛ والتوثيقي كذلك .
إلا أننا لم نر سيرة مكتملة في أدبنا العربي سوي سيرتين هما : سيرة أبو زيد الهلالي سلامة؛ وسيرة الزير سالم .
والمواطن العربي يحب قراءة القصص والروايات؛ وهو – كما يقول د. عزيز بعزي – الباحث المغربي – العربي من يفضل قراءة (اليوميات) و(المذكرات) و(السير الذاتية) للشخصيات المجتمعية الشهيرة، من الأدباء والمفكرين للتعرف إلى حياتهم وشخصياتهم. ومن الخطأ الاعتقاد هنا بأن السيرة الذاتية فن وأدب نابع من الخيال، فهو ليس كذلك بحكم كونه يستمد جماله من روح كاتبه، بشكل متصل بالواقع.
فشخصيات السيرة الذاتية، وأحداثها لها صلة وثيقة بالواقع، وقد أخذت الخيال والقدرة على عرض الصراع والأحداث من القصة، وكذلك صياغة الأحداث الحقيقية لحياة الشخصية في قالب فني- أدبي، وفي الوقت نفسه، فقد أمدت السيرة بعض كتاب القصص الواقعية بموضوعات قصصهم، حيث يمكن للكاتب القصصي أن يستعين بسيرة ما في تأليف عمله القصصي، وعلى أية حال فالعلاقة بين السيرة الذاتية والقصة هي علاقة أخذ وعطاء.
فالسيرة الذاتية هي قصة حياة فرد من الناس، يكتبها صاحبها بنفسه، ويذهب هذا الفهم إلى أن أي قصة يكتبها الشخص بنفسه عن حياته، قد تكون من قبيل السيرة الذاتية، والحق أن هذه الأخيرة كجنس أدبي، تنفرد عن بعض الأشكال المتقاربة، وبخاصة (المقال الشخصي) و(اليوميات) و(المذكرات اليومية) التي تستخدم في السفر، و(رواية السيرة الذاتية) التي يتضح من اسمها أن موضوعها شخصي، ولكن كاتبها ليس كاتب سيرة ذاتية محترفاً.
وليست السيرة الذاتية مجرد تسجيل حوادث وأخبار، ولكنها عمل فني يترك أثره المنشود لدى المتلقي. ومن دون شك فبداخل النص السير ذاتي تتشكل هوية الأنا السردية، بمعنى وجودها الذي يرسم كيانها الورقي، فيتحول النص السير ذاتي حينها إلى سرد لقصة حياة، وهي أساساً محطة تصل بين لحظتين، إحداهما تحيل على لحظة الكتابة، أما ثانيهما فتحيل إلى ماضي الكاتب نفسه، فتغدو هذه اللحظة وصلاً بين زمنين: زمن مضى قد انقضى، وزمن حاضر يمثل لحظة الكتابة، ومنطلق البداية.
لقد كتب عميد الأدب العربي طه حسين سيرته الذاتية (الأيام) -النص التأسيسي للسيرة الذاتية في الأدب العربي- مدفوعاً بالدافع نفسه بحثاً عن دفء الموقد الباطني، بسبب المحنة التي تعرض لها بعد نشر كتابه (في الشعر الجاهلي) الذي أفصح فيه عن موقفه تجاه مسألة انتحال الشعر الجاهلي، وكأنها استجابة فكرية لأثر (الخارج) على (الداخل)، أي موقف المجتمع من طه حسين نفسه، بعد أن دعا إلى آرائه التجديدية.
اما السيرة الشعبية فهي قسم مخصوص في التراث الشعبي والمخيال العام للجماعة الشعبية؛ وهي تشكل المعين الجمعي للثقافة الشعبية التي يتحلى بها الشعب؛ وهي أدب الشعوب للتسلية والسمر وسماع السيرة مغناة ومصاحبة الموسيقا والآلات الشعبية؛وهي وسيلة تعليمية وتربوية وأخلاقية كذلك؛ تجسد هوية الشعوب وأمزجتها؛ وميلها نحو الأدب المحكي والقصص التي تنشد البطولة والقيم؛ وتحكي المواقف لتدفع النشء إلي التماثل مع هذه النماذج التاريخية المضيئة في عالمنا الممتد
ولقد عرفت سيناء : باديتها وحواضرها فن السيرة الشعبية؛ وتناقلت الألسن الروايات الشفوية المكتوبة؛ وصاغتها بلهجتها فاكتست طابعًا يساوق الذائقة المجتمعية؛ وأصبحت مادة للسامر السيناوي؛ تغني علي الربابة والأرغول ؛ ويتناقل أبياتها الرواة والمنشدون؛ كما مثلت قيمة تاريحية وتراثية في تاريخ الشعوب .
لقد قسم الباحث / مسعد بدر كتابه إلي عدة أقسام أو فصول ؛حيث عرض في القسم الأول مقدمة عن السيرة كمفهوم عام واهميتها؛ وفي القسم الثاني اوضح منهاجية الجمع الميداني للسيرة وأنماط التفكير الشعبي للجماعة الشعبية؛ وفرق بين سيرة الزير سالم في البوادي العربية؛وما يتناقله الرواة في سيناء؛ كما عرض لنا سيرة الزير سالم بلهجة بدو سيناء التغايرية؛ وهو كتاب نتمن الجهد المبذول به ؛ وقد سبقه كتاب السيرة الهلالية برواية أبناء سيناء ولهجتهم المحلية كذلك .
ولنا أن نعرض لبعض ما جاء في هذا الكتاب الأهم في تاريخ السيرة الشعبية العربية الرائعة .
يقول أ/ مسعد بدر : في مقدمة كتابه الرائع : الزير سالم :
عرفت بادية سيناء سيرتين شعبيتين اثنتين: السيرة الهلالية، وسيرة الزير سالم، ولم أسمع – وأنا ابن هذه البيئة – نموذجًا ثالثًا.
والسيرتان كلتاهما إنتاج أصيل لهذا المجتمع. أثبتُّ أصالة وتفرد السيرة الهلالية في مقدمة كتابي (السيرة الهلالية – رواية من سيناء) الذي جمعتُ فيه هذه السيرة، والذي أصدرته هيئة قصور الثقافة عام 2019. وسوف أثبتُّ وشيكًا (في فصل خاص) أن رواية بادية سيناء لسيرة الزير سالم هي أيضًا رواية أصيلة متفردة.
وأساس التفرد أن الراوي الشعبي يتخذ السيرة قالبًا يصب فيه أفكار مجتمعه ومُثُله وقيمه وآماله؛ فتخرج السيرة ترجمانًا لهذا المجتمع بالذات، وهذا لا يمنع أن تتشابه وتلتقي مع روايات أخرى من بيئات مغايرة؛ فإن التقاطع والتوازي قائمان ثابتان في جوهر العمل نفسه. وإني أذكر تمامًا كلمة عمنا الراوية المرحوم (رفيع عيد بدر) حين قال لي: “نحن بقايا الهلالية”! قلتُ له: “كيف”؟ قال: “حياتهم تماثل حياتنا، في عاداتهم، وهيئة بيوتهم، وطعامهم، وعاداتهم، وسامرهم، و…”. رحم الله عمَّنا الكبير؛ لم يدُر بخلده أنه هو وغيره من الرواة هم الذين صاغوا السيرة وَفق مقياس ثقافتهم، ونسجوها على منوال حياتهم.
في هذا الكتاب نقدّم للقارئ الكريم نصًّا لم يسبق نشره، وهو (سيرة الزير سالم)، وهذه السيرة تحتل المرتبة الثانية في الأهمية بعد السيرة الهلالية، ومع ذلك هي سيرة شائعة في كل أنحاء بادية سيناء وبين كل قبائلها. وكما هي الحال في السيرة الهلالية؛ فإن سيرة الزير لها أحداث محددة، وفيها تعبيرات لغوية ثابتة، وأبيات شعرية متوارثة، يحكي الراوي ذلك كله وَفق ما وصل إليه، ووَفق ما حفظت ذاكرته. وهذا يعني أن السيرة تنقص عند راوٍ وتزيد عند آخر، وأن رواية تُكمل رواية، أو تُخالف رواية، لكنها المخالفة الطفيفة التي لا تمس جوهر العمل، ولا تخلّ ببنيته الأساسية
أنماط الرواة في بادية سيناء
سبق القول إن هذه الرواية تُعدّ نصًّا محفوظًا لا يضيف الراوي إليه شيئًا من ذات نفسه، وإنما يتفاوت الرواة تبعًا لما وصل إليهم من روايات، وتبعًا لما حفظت ذاكرتهم.
غير أن هنا أمرًا يتفق حوله الرواة جميعًا وهو أنهم يعايشون السيرة معايشة حقيقية وكأن أحداثها تجري بينهم الآن. ثم هم يختلفون في مظاهر هذه المعايشة، وسوف أعرض الآن ملامح تفاعل كل راوٍ مما سمعت منهم.
فالمرحوم سِلمي أبو جبيل كان رجلًا شجاعًا صُلبًا ماهرًا في فنون القتال بالسيف؛ فإذا حدّث فإنه يُعنى عناية خاصة بإبراز مواقف البطولة الخارقة، يحدّث ثم يكرر الحديث محاولا قدر استطاعته أن يمثّل المعنى بصوته، وأن ينقل للمستمع خلجات نفسه من خلال تنغيم الصوت أو رفعه، ومن خلال النبر والسكتة واللفتة والإشارة باليد، وبكل وسيلة يراها تعينه على التعبير عن تفاعله وانفعاله. ولعل أشهر المواقف التي كنّا نحب أن يرويها لنا ذلك الموقف الذي يحكي أن الزير سقط بحصانه في حُفَر حفرها له أعداؤه، وأن ابن أخيه نشله من الحفرة الأخيرة، وهو نشل الحصان!
وأما المرحوم ضيف الله سلامة فقد كانت حكايته عجبًا! جلستُ أمامه بجهاز التسجيل وهو بدأ يحكي إلى أن وصل إلى حيث أنزل كليب أخاه في البئر يريد أن يتركه فيها ويتخلص منه غدرًا! فاصطرعت الخيل على الماء وعجز كليب عن السيطرة عليها؛ فنادى الزير من قعر البئر بصوت مجلجل: “هراه مدموج القطاة! يلعن أخ يسخَى في أخاه”! فهدأت الخيل واستكانت. هنا انخرط المرحوم ضيف الله في بكاء صادق حار، ومدّ يده إلى جيبه واستخرج منديله يكفكف به دموعه الغزار! ثم أعاد المقطع وأعاد البكاء، ثم كرر الحديث والبكاء لم ينقطع، ثم نهض وغادرنا!
كنتُ أرقب المشهد وأنا دهِشٌ حيران، حتى حكى لي أبناؤه أن للمرحوم أخوين اثنين ماتا منذ زمن بعيد؛ فهو يعرف قيمة فقدان الأخ ويستذكرهما حين يروي أن كليب كان سيغدر بأخيه! وهذا يعني أن السيرة بالنسبة للعم ضيف الله ليست مجرد حكاية تُروى، بل هي مواقف حية وعِبَر يراها المرء في حياته التي يعيشها بالفعل.
والمرحوم (عيد عبد الكريم العوابدة) كان في الأصل شاعرًا مغنّيًا شهيرًا ظريفا ذا حضور مرِح، وقد ذاع عنه شعره الممزوج بالدعابة والسخرية والطرائف؛ فليس غريبا أن تتفرد روايته التي نقلها عنه حفيده (زكريا أحمد) بمواقف طريفة عجيبة تدل على تفاعله مع السيرة، وتؤكد على تأثير شخصيته في سرد أحداثها، ومن الشواهد على ذلك لهْوُ الغيلان الصغيرة بالزير، وكيف كانوا يتقاذفونه كأنه كُرَة!
وأخيرًا، يبدو الراوي (سلّام الرويّس) رجلًا رقيقًا متعاطفًا مع أبطال السيرة؛ فهو يترحّم على كليب والزير، ويدعو لهما! كما يبدو حريصا على القيم التي تتضمنها السيرة، رابطًا بين عصرها وبين هذا العصر الذي ضاعت فيه المبادئ والفطنة والنباهة، في رأيه، فيقول مثلا: كانت لدى الناس فطنة.
والسيرة عند هؤلاء الرواة حدث انتهى ولم تنتهِ آثاره بعد؛ فإنهم يزعمون أن طائفة من الناس الرُّحَّل يسمّونهم (النَّوَر) هم بقايا قوم جساس الذين أذلهم الزير، وأنهم إلى اليوم يحيون حياة الذل التي فرضها عليهم بطل السيرة: الزير سالم.
أما ما يعيب كل الروايات التي جمعناها؛ فهو ضياع وزن الأبيات الشعرية التي وردت؛ فإنها تقصر وتطول وتضطرب تفعيلاتها وقوافيها، بحيث يستحيل ضبطها دون إعادة صياغتها من جديد، وهذا أمر يتعارض مع كون الرواية نصًّا لا دخل للراوي فيه، فضلا عن أن الجماعة الشعبية تَعُدّ السيرة نصا علويًا لا يجوز المساس به تصحيحًا أو تعديلًا.
ولعل السبب في ضياع ضبط الأشعار هو تقادم الزمن، وتفاوت الرواة في القدرة على الحفظ، وأن هؤلاء الرواة لم يكونوا شعراء يملكون الحسّ الموسيقي في نقلهم النصوص. حتى المرحوم عيد؛ فقد كان مغنّيًا لا شاعر قصائد، وللغناء في بادية سيناء أوزان تغاير أوزان القصيد؛ فضاع الوزن هنا كما ضاع في روايتهم للسيرة الهلالية.