ثقافة و فن

رفيف الاماني.. بين ألم الاغتراب ودفء الحنين للكاتبة منور ملا حسون 

رفيف الأماني.. بين ألم الاغتراب ودفء الحنين للكاتبة منور ملا حسون

 

كتب :حاتم عبدالهادي

في أعماق الذاكرة تنمو قصص تلامس شغاف القلوب، تسافر بنا عبر أزمنة ومواقف تحمل ألوان الحب والأمل والفقدان. قصة “رفيف الأماني” للكاتبة منور ملا حسون تسلط الضوء على معاناة الاغتراب والحب الذي يظل مشتعلاً في القلوب رغم تحديات الزمن وقسوة الحياة.

 

تتناول القصة رحلة يوسف وسلوى، حيث ينسج القدر خيوطًا تجمعهما رغم تباعد المسافات والظروف الصعبة. بين أمل اللقاء وألم الفراق، يبرز الحب كطوق نجاة من عواصف الحياة. القصة تجمع بين عذوبة السرد وعمق الأحاسيس، مصورة مشاعر الفقد والحنين بجمال أدبي أخّاذ.وفي هذا السياق ننشر نص قصة رفيف الأماني.

جلست في زاوية غرفتها وهي تحاول دفن السر الصامت في ثنايا ذاكرتها .. وظفائرها الكستنائية ، تتدلى على فستانها الأسود الذي بات يلازمها منذ سنتين .
تنهدت .. وهي تلملم بقايا ذكرياتها التي أيقظها صوت البلبل المغرد في قفصه قرب النافذة . شهقت .. وهي تنظر إليه وترسم لحظات الماضي الذي غاب عنها وتناثر على أجنحة الأيام .
بتغريدة البلبل ، عادت صحائف الأيام بأسطرها أمام عينيها ، فغدت الذاكرة تنثر ما نسجته تلك الأيام . وبشهقة ٍ حزينة ٍ قالت :
– ليت عقارب الساعة توقفت ، وأنت تعطر أيامي بأسعد اللحظات !!
فأخذتها الذاكرة الى رحاب ذلك المنزل العامر الذي زارته ذات يوم مع العائلة ، حيث انشغل أفراد العائلتين في صالة الدار بأحاديث ذات شجون ! وإذا بصوت بلبلٍ يدغدغ رهفَ إحساسها .. راق لها أن تخرج الى حديقة منزل العائلة المضيفة .
خرجت وهي تمسك بيد شقيقها الأصغر وهو في أولى سني عمره الأربع ، مشت وهي تخطو نحو قفص البلبل الغريد ، الذي داعب رقة حسها . رفعت رأسها ، إذا به يحدق فيها ! فنظرت إليه باستحياء . قطف وردةً جوريةً حمراء وقدمها إليها ويداه ترتجفان خشيةَ أن تردها . مدت يدها مترددة وكأن الوردة ستسقط من بين أصابعها . جلست على أقرب مقعد في الحديقة وهي تتأمل الوردة وتشم عبقها الوردي بخجل .. ثم نطقت بابتسامة خجولة :
– أستأذنك .. سأشارك العائلة في جلستها .
أخذت بيد شقيقها الصغير ودخلت الى الصالة والوردة النشوانةٌ بين أصبعيها.
لم تكن تقتنع بالحب ، إذ حاول الكثيرون اختراق قلبها، لكنها كانت صامدة حتى أمام أعذب الكلمات .. لم يكن في حسابها يوما ما أن ( يوسف) سيتربع على عرش قلبها .
وفي يوم ربيعي أخضر، خرجت العائلتان في نزهة ربيعية حيث الأشجار والبساتين الحالمة .. فالتقتْ عيناهما مرة أخرى .. لكن الخجل منعهما من البوح . كانت تصطنع اللامبالاة .. وكل واحد منهما مسرور بالآخر دون أن يفصحا حلمَهما السرمدي .. !
بدأت ( سلوى) توزع الحلوى ، وحين وصلت إليه مدّ يده ليتناول قطعة ، فوقعت قطعة منها على الأرض . فانحنى الاثنان مرة واحدة لرفعها ، حينها اصطدم رأسهما برفقٍ فأرسلت ابتسامة خجولة فارتسمت الإشراقة على وجهه .
كانت ( سلوى) تدير معمل الخياطة الذي يمتلكه والدها ، إذ لم تحبذ التعيين رغم حصولها على بكالوريوس العلوم قسم الحاسوب . فكانت تجيد إدارة المعمل وبإتقان. أما ( يوسف) ، فكان حائزا على بكالوريوس إدارة الأعمال ويشرف على أعمال إحدى المحال التجارية .
وفي أحد الأيام زارها في مكان عملها ، ليعرض عليها مشروعا تجاريا لشراء الألبسة الجاهزة لعرضها في المحل التجاري الذي يشرف عليه .
فرحت (سلوى) بزيارته فالتقت نظراتهما التي يسكن فيه همس الحنين !
وفي دفء الصمت نظر الى قميصها البنفسجي ثم قال :
– لون البنفسج يوقظ شذى الربيع .. !
نظرت ( سلوى) الى الأرض باستحياء فزاد الصمت دفئاً .. ثم انصرف بعد أن اتفقا أن تتحدث مع والدها بشأن صفقة الألبسة .
كان الإحساس بينهما بالحب ، كزهرة تتفتح رويدا لتنثر عطرها على ذاكرة الأيام .
وحين بلغ الشوق حدّهُ ، لملم كلماته و أفصح لأمه بأنه راغبٌ بالزواج من (سلوى) التي لا تفارق خياله . رحبت والدته بذلك فقالت :
– هي ابنة صديقة العمر ، ووالدها شخصية معروفة بثرائه ووقاره .
ملأت الغبطة قلبه وكأنه اقترب من تحقيق خياله ..
فقرروا تحديد موعد للزيارة . وعند لقاء العائلتين يوم الخطبة ، لم يكن جواب والدها مطَمْئنا ًحين قال :
– أقترح تأجيل هذا الأمر ؟
فبهت (يوسف) مخذولا ..! وهو يمتص ذؤابة آماله .. قام مسرعاً وهو يعانق جرحه ، توجه نحو سيارته ترافقه والدته وهما في مرارة وخذلان .
إلا أن والدة (سلوى) كانت بلسماً للشرخ ، إذ حاولت إرضاء والدها لقبول الخطبة ، كي لا ترتدي ابنتها رداء الألم ، لكنه لازم الصمت .
أما ( يوسف) فقد تناثرت أحلامه وكأن مواسم الرياح الحزينة قد مزقت أشرعة آماله الظمأى الى من يرسم سطور غده المجهول .
لم يستطع الصبر أمام طاحونة الزمن المرير .. حاول أن ينفض عن نفسه صخب الضياع ، فقرر الاستغناء عن عمله والسفر الى إحدى الدول ، بصفة لاجئ مع مجموعة من أصحابه الذين ضاقت بهم سبل الحياة والعيش الرغيد .
ودّع والديه وهو يقبلهما ..والألم الساكن في دواخله يكاد يصرخ في تلاطم ذاته :
– أنتظر دعاءكم ..
شهقت الأم لكنها حبست ألمها، فاحتضنته ووالده وهما في وقفة رجاء من الله أن يحفظه ويوفقه في مسعاه .
مرت الأيام و(يوسف) في رحلة البحر الموحش مع رفاقه في سفينة تتمايل مع الأمواج الصاخبة .. وإذا بعاصفة تمزق أشرعة المركب ،حتى بدأ يتأرجح يميناً وشمالا والكل ينادي :
– لطفك يا رب ..
وإذا بالبحر يبتلع جزءاً من المركب ، حتى عجز السّفان من السيطرة على قيادته فانقلب بجميع ركابه ..! وكل راكب يستنجد الإله أن يُنقذه . ويا للكارثة فقد غرق أغلبهم .. أما (يوسف) الذي خبأ أحلامه المصلوبة ، حاول مجاهدا أن ينجو من صخب الأمواج وهو يصارع الغرق . أنهكته السباحة وهو في خضم المد والجزر .. وإذا به قرب سفينة قديمة غارقة منذ سنين . تشبث بطرفٍ منها وهو يتسلقها بوهن لا يطاق ، حتى رمى بجسده المنهك الى باحتها . تنفس عميقا وقد تمزقت ملابسه ، فاتكأ على جدار السفينة وهو حامد لربه .
شعرَ بالجوع بعد أن أحسَ بالأمان ، فبدأ يفتش في زوايا السفينة المهجورة !
وإذا به يعثر على فتات خبز يابس . نقّعه بماء عثر عليه في قنينة تحت أحد المقاعد، فتناوله ليكسر به جوعه محتفظا ً بالباقي .
بقي ( يوسف) يومين وهو يعاني الوحدة ، فأراد أن يكسر سكون الوحشة .. وإذا به يصيح بأعلى صوته :
– هل من أحدٍ يسمع صوتي ؟ هل من منقذ لي من هذه الوحدة !!
وإذا بصوته يصل الى أذن سيدة خرجت تتنزه قرب البحر ، وهي سيدة ثرية تعيش في جزيرة قريبة من تلك السفينة . أرسلت إليه إثنين من حراسها ، فجاؤوا به الى منزلها . وبعد ان نال راحةً وفهمت قصته ،اتفقت معه أن يعمل عندها فلاحا في مزرعتها .
مضت من عمره سنتان وهو يحاول اجترار آلامه الحبلى بأنين الشوق الى أهله والى من استقرت في أوردته دون منازع ، (سلوى ) ..
ورغم ظنه أن مفاتيح العودة محتجبة عنه ، لكنه قرر العودة الى الوطن الأم ! ولكثرة معارف سيدة الجزيرة ، يسرتْ له أمر العودة .
أما (سلوى) .. ما زالت تعانق جرحها وفي القلب صمت نازف وهي تعيش تفاصيل أيامها لحظة بلحظة . والسواد يلفها منذ سنتين ، منذ أن وصلتها أنباء غرق السفينة بأكملها ، والموت الجماعي وانقطاع أنباء من عاشت من أجله في رفيف الأماني . لم ترض بقيود الوهم ، إذ كانت تُمنّي النفس أن تسمع صوته ، تشم عبق أنفاسه وتعيش ابتسامته المفقودة عنها. كبرتْ أكثر من عمرها والخيبة تحاصرها .
جاء موعد مغادرة (يوسف) مزرعة سيدة الجزيرة التي أكرمته طيلة عمله فيها .
فقد سئم الاغتراب وبدأت رحلة العودة .. وهو يحمل أندى الأمنيات . وبعد سفر طويل مليء بالصعاب ، وصل الى مدينته الأم .. وقال في سره :
– سأقبّلُ ثراكِ .. لأنسى محطات حزني .. فقد يبستْ عروقي ظمأ ً الى مَنْ اشتقت إليها .. هي فرحي البنفسجي إنها (سلوتي ) .
وقبل أن يذهب الى داره قادته قدماه الى بيت الحبيبة التي مازالت تعيد خيوط ذكريات وردية الهمسات رغم ارتدائها رداء الألم .
سمعت رنين الجرس ، فتحتْ وإذا برجل أشعث الشعر طويل اللحية .. وهلةٌ من الصمت جالت ْ بينهما، أمعنتْ النظر فيه وهو يحدق فيها بشغف . فحصتْ تفاصيل وجهه الذي اسمرّ لونه ، جراء العمل تحت الشمس في المزرعة .
ابتسمت عيناها حين رأت الشامة النشوانة تحت شفته السفلى ، تخبرها بأن الغائب المنتظر قد حضر دون موعد .. ! فانتشت الروح النابضة صبرا ..
و بدفء الصمت تعانق القلبان .. !!

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى