المزيد

السيرة الشعبية المصرية…  زمن الفن الشعبي الجميل

السيرة الشعبية المصرية…  زمن الفن الشعبي الجميل

 

حاتم عبدالهادي السيد

تمثل السيرة الشعبية وجدانيات الأمم والشعوب؛ ولقد ظعرت في مصر لتشكل الوعي الجمعي المصري؛ وتكون لديعم الجس الوطني لما لهذه السير من قدرة علي التأثير على وجدان الشعوب؛ حاصة وأن الشعب المصري شعب عاطفي ترثر فيه الكلمة والموقف والأحداث كذلك.

وعن السيرة الشعبية يقول أ/ مسعد بدر مرلف كتاب ( الزير سالم ) سيرة برواية بادية سيناء؛ يقول : يتحدث الدارسون عن (انفتاح النص السردي الثقافي) في السيَر الشعبية العربية عامة، ويؤكدون على “تفاعلها النصي مع أنواع سردية متنوعة، ومع حمولات معرفية تنتمي إلى أنساق معرفية متنوعة”(1)، ويشيرون إلى “أن هذا الانفتاح كان بارزًا في السيرة الشعبية أكثر من سواها من الأنواع السردية”(2) الأخرى. وأن “ما يميز السيرة الشعبية في هذا الانفتاح هو التراكم الثقافي”(3). وهذه الظاهرة – وَفق شوقي عبد الحكيم – “اُتّفق على تسميتها بالتراكُم الملحمي أو السِّيَري، من أحداث لاحقة تتعلق بنمط في الجسد الأصلي للسيرة أو الملحمة تضيفها وتضفيها العصور المتوالية”(4). وفي موضع آخر يزيد الدارس نفسه التراكمَ إيضاحًا بأنه ما “يضفيه كل مجتمع وكل كيان من بلداننا العربية على الأنماط المستقلة في السير الشعبية”(5).

فمن أمثلة هذا التراكم، التي انفردت بها سيرة الزير كما تُروى في بادية سيناء، بعض نبوءات (حسّان تُبّع) التي تتنبأ ببعض الاختراعات الحديثة، وبالحرب في مناطق ملاصقة جغرافيًا لبيئة الرواية، منها مدينة (غزّة) ومنطقة (يِبْنا) الفلسطينيتان، بل تنص الرواية على ذكر سيناء نفسها إذ تذكر (السواحل والرمال) [ص42](*)، وهي بيئة جغرافية تمتد من (غزة) شرقًا مرورًا برفح المصرية وتتصل حتى سهل الطينة جنوب غرب سيناء، شاملةً كل الأماكن التي جمعتُ منها هذه السيرة.

واتصالًا بهذه الجزئية، نلاحظ أن هذه البيئة غنية بالأمطار وتكثر فيها الآبار؛ فهي بيئة، اقتصاديًا، زراعية أكثر منها رعوية؛ فليس غريبًا أن تضع روايتهم على لسان (حسّان) أن المناشط الزراعية أفضل من الرعي، وأسرع منه إلى تحقيق الغنى [ص42]، ما يمثّل صورة أخرى من صور التراكم الثقافي. ولو أني حصلتُ على رواية أخرى من أهل جبال سيناء، حيث الرعي أكثر من الزراعة؛ لربما تغيّرت لديهم بعض النبوءات.

ولا أريد أن أنتهي من هذه التأثيرات الثقافية حتى أشير إلى موقف صغير جدًا كاشف جدًا، ذلك أنني نشرتُ جزءًا من هذه السيرة على مواقع التواصل، وكان مما نشرت تعبيرٌ موروث ورَدَ في السيرة على هيئة تركيب مسجوع يُضرب مثلًا ولا يختلف في نصه أحد، يقول هذا التعبير على لسان (الزير) مخاطبًا الأسد: “من قتل حمير العرب؛ يزوزي بالقِرَب”. والقرَب جمع (القِربة) التي يُحمل فيها الماء. [ص47] وكانت الأحداث التي سبقت هذا التعبير واتفق عليها كل الرواة أن (الزير) ورد الماء يحمل (جِرارًا) على ظهر حماره؛ فتعجّب المتابعون: كيف يذكر الراوي الجرار والمثل يقول إنها قِرَب! وتساءلوا: ما هذا التناقض؟ والحقيقة أن لا تناقض؛ فبيئة الرواة انقرضت منها القِرب وحلت محلها الجرار، لكن التعبير الموروث احتفظ بالقِرب؛ بفضل فن السجع.

على أن التراكم يتجاوز المناشط الاقتصادية والثقافية؛ ليشمل الأساطير التي يؤمن الرواة بواقعيتها وصدقها. إنهم يروون أن (الزير) مسح بيده على عينيّ أخته فارتدّ إليها بصرها [ص76]. ويتحدثون، ضمن أساطير أصل السلالات، عن أصل سلالة (النَّوَر)، وأنهم هم أعداء (الزير) الذين أذلّهم [ص89]. يحكون الموقفين باعتقاد ثابت في حقيقتهما، لا بوصفهما خرافتين من الخرافات الشائعة بوفرة في بيئة هذه الرواية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى