
بقلم حاتم عبدالهادى السيد
“لَمْ أَعِدْ أَحدًا بأَنَّني سأَكونُ شاعِرًا..
لَقدْ وُلِدتُ هكذَا!”
محمَّد حِلمي الرِّيشة
(شِعرَيار) .
بهذه المقدمة الشعرية يفتتح الشاعر الفلسطينى ” محمد حلمى الريشة سفره الأهم فى تاريخ الشعريّة العربية ” : ” قلب العقرب ” ، وهو عنوان تشاكلى – منذ البداية – الى أنه يحيلنا الى عدة دوال ومدلولات سيمولوجية تعكس الواقع المهيب لهذا القلب المخيف : ” العقرب ” الذى يتربص بفريسته ،أو الذى ينفث المرار لتنجلى أسرار القلب بمرار الأيام ورهقها ، أو بمثيولوجيا الحزن والألم ، والاستعمار للأوطان ، ولدواخل قلوبنا ، التى تحولت بفعل الغدر الى قلوب مستسلمة للدغات العقارب والثعابين ، ربما لنفيق ، وربما لنموت شهداء أو مقاومين لهذا المستعمر الغاشم للجسد العربى الصغير ، ولجسد الذات الهائمة فى العالم ، ومع كل تبقى شيفرات النصوص ، أو : ” السيرة الشعرية ” – كما حددها تحمل دلالاتها النصيّة داخل جغرافيا اللغة والمكان قبل الولوج الى تلك السيرة الشعرية للبطل الأسطورى : ” شعريار ” – الذات الشاعرة – وهى صفة للشاعر المحب ، أو اللقب الذى امتاحه لذاته ، لتغايريته ، ولتمايزه عن كل الشعراء ، لذا نراه يتشبث بالشعر ليدلّل الى الهيام والولع بهذا العالم الساحر الرقراق ، كما يستدعى الميثولوجيا وأسطورة الحب العالمى لشهريار العربى الذى يحب شهرزاد العربية –الفلسطينية بالنسبة له – ليعادل بصورة متساوقة بين حبه للشعر وتسمّيه به ، وتساميه بالبطل العربى ” شهريار ” الذى حوله من عاشق لشهرزاد الى عاشق للشعر ليضفى بأسلوبيته ذاته وروحه السامقة فيحوّل الوجود والعالم وكل ماحوله الى كتاب للشعر ، ويتفرد هو وحده بكتابة التوقيع ” شعريار ” ، وكأنه يعيد للشعريّة العربية جذوتها الرومانسية ، بعد أن كادت تختفى من حياتنا التى أصابتها نكسات الحداثة والتمدين ، لتحتل الآلة الصدارة بدلاً من الحب ، ولتستعمر التكنولوجيا جزيرة الحنان والدفء الشعريتين بدلاً من يمامات الشعر الأنثوية التى تتدفّأ بسديم الوجد والوجع الشهى الصارخ فى برارى العالم والكون ، بالحب والأمل والنور، وبالحق والخير والحرية والسلام فى العالم اللامتناه ، العالم الافتراضى لمابعديات الوجود الانسانى ، وماقبليات النشوء والتكوين أيضاً .
انها سيرة شعرية ، سيرة عالمية لشاعر يصنع من عجينة الشعر تاجاً ملكياً ليتوج الملك الجديد : ” شعريار ” عرش الحداثة ، وطيلسان الفرادة الشاعرة لشاعر يعزف من صوف المفردات فسيفساء الجمال ، فهو لم يعد أحداً بأن يكون شاعراً ، لكنه ولد شاعراً ، وهذا يستوجب استكناه الكينونة الشعرية الانسانية للمولود الشاعر ، والشاعر الملك ، أمير الشعراء ، وسلطانهم : ” شعريار ” ليعيد تشكيل العالم بريشته الذهبية الساحرة ، ريشة شعريار الذى يصنع أسطورة وجوده ، أسطورة قضيته ، أسطورة حلمه ، ووجوده ، وذاته ، وأسطورة العالم ، والكون ، والحياة ، يقول :
( مَا زلتُ أَذكرُني كيفَ رقصتْ دَهشتي/صَرختي، فِي داخلِي وخارجِي، رقصةً/صرخةً عارمةً، حدَّأَنَّ الآخرينَ استهجَنوا حركتِي المسرحيَّةَ. ولمَ لاَ؟ نارٌ تغفُو فِي حضنِ موقدٍ، وغصونُ وردٍ (بنُعومتِها الأُنثويَّةِ) تتَّكئُ علَى كتفٍ (لمْ يكُنْ بشريًّا)، بلْ علَى (إِبريَّةِ) سياجٍ. ولمْ أَزلْ أُمارسُ هذهِ العادةَ اللَّذيذةَ فِي قراءةِ الموسيقَى/الغناءِ إِلى الآنَ، ومَا لمْ يكُنْ يحمِلُ هذَا المعنَى التَّصويريَّ المليءَ بشاعريَّةِ الحواسِّ، ليسَ باعتقادِي قابلاً لقابِلَتي/ذائقتِي الخاصَّةِ … تذهبُ بِي الذَّاكرةُ، الآنَ، إِلى أَنَّ لغةَ أَغانِيها شكَّلتْ تحريضًا أَوَّليًّا/عذبًا للُغتي الشِّعريَّةِ لِـمَا كانَ لِي بعدُ منْ شِعرٍ؛ لغةٍ تنبَّهتْ فِيَّ، منذُ التَّمارينِ الأُولى، إِلَى أَنَّ “مِن شجارِنا معَ الآخرِ نخرجُ بالخطابةِ، ومنْ شجارِنا معَ أَنفسِنا نخرجُ بالشِّعرِ.” (وِليمْ بِتلَر يِيتسْ).
انه الشاعر المولود بالشعر ، الممسوس به ، والمعجون بجسده وتكوينه وكينونته الأولى ، لذا فلا غرو أن تتحول السيرة الشعرية لعاشق الشعر الى هيام وولع ، بل صلاة للشاعر المتصوف فى رحاب حضرة الشعر المقدس ، والجميل ، والذى يمثل لديه كل شىء ، وقبل أى شىء ، وبعد أى شىء ، انه الشعر ولا شىء سواه . الشعر الذى يمثل اتجاهه وقيمه وعالمه وطبائعه الجمالية الحالمة ، والشعر الذى يصوح مع مفرداته كالمجذوب فى حضرة الذّكر / الشعر / النص / القصيدة / السرد الشعرى / السيرة الشعرية ، وغير ذلك ، فنراه يتحلّق حوله ، ويطوف معه ، ويسافر على ظهر براقه ، ليعرج الى معارج الكون ، عبر سماوات الخيال والواقع ، وعبر مركبة الشعر الوحيدة التى صنعها بتفرّده ” شعريار ” البطل فى الكون الشعرى الممتد .






