الراوى حاتم عبدالهادى السيد يكتب :بدوية من سيناء

الراوى حاتم عبدالهادى السيد يكتب :بدوية من سيناء
ربما كان عليك أن تكون أكثر حذراً ،لست وحدك هنا ، لا تعرف عادات البدو الرصينة ، تقول : لن تملّ .. ستغير وجه البادية لتعيد رتق المحبة فى فيافى الروح ، أو على الأقل ستحاول كسر الايقاع وتتزوج من بدوية !! .
حالم أنت ، أبلغوك بأنها محجوزة لابن عمها ،وكما يقول المثل : ” اللى ما بيعرف الصقر يشويه ” . أنت فلاح ، بلغة القبيلة ، غريب ، تسكن المدينة ، تلبس بنطالك الجينز ، وفوق عينيك نظارة متهالكة ، وتظن أنك الفارس المنتظر .
عندما قابلت والد ” سلمى ” التى أحببت عينيها ، من خلف البرقع ، قال الوالد باقتضاب :
-ليس عندى بنات للجواز.. مين اللى دلّك علينا ، روح يابنى اختار لك واحدة من توبك ، بنت العرب للعرب ، ما نزوجها لغريب أبداً .
حاولت أن تتكلم ، تدافع عن قلبك المنكسر ، لكن سويلم –والدها – عقد حاجبيه بحنق ،كصقر يتهيأ للانقضاض على فريسة واهنة .
خرجت متثاقلاً أحمل جبل الهموم على جسدى الهذيل ، قابلنى أحد العربان ، كان يلبس جلباباً ، ويضع على رأسه الحطّ والعقال ، وفى احدى يديه سيجارة ملفوفة بالتبغ العربى ، حيانى مبتسماَ ، استوقفته كغريق يستنجد بمن ينقذه ، أخبرته بما حدث ، تعالت ضحكته ، ثم لما شاهد احمرار وجهى ، ويبدو أنه قد رثّ لحالى – دعانى لشرب القهوة عنده ، فى العريشة القريبة من منزله المتواضع .
لم تكن خيمة ، أو ” بيت شعّر” – كما يسمونه ، بل كان ” ” شقّ ” – كما يطلقون عليه -، وهو أشبه بحجرة الضيوف ، مصنوع من الخوص ، وبعض أشجار العادر ، وجريد النخيل ، توسطه عود طويل سميك لشجرة زيتون ناشفة ، تصلح أن تكون عروضاً ، لتحمل السقف ،وقتها فقط أدركت لماذا يطلق العرب على علم الموسيقاً ” عروضاً ” ، ومع شعورى بالطمأنينة قليلاً ، الا أننى التزمت الصمت ، كنت أرقبه وهو يكسر أعواد الحطب الجافة ، ويقربها من الموقد ” الكانون ” ، ثم أشعل فيها الثقاب فانطلقت النار تتوهج بحرارة أقل حدة من حرارة قلبى الرهيف ، وضع البكرج القهوة ” الدلّة ” على النار ، ثم فارت القهوة ، وصب لى فنجاناً ارتشفت مذاقه وأحسست بهدوء يسرى الى روحى الهائمة .. جلس بجانبى وكأنه يعرفنى منذ زمن طويل ، بدأ حديثه بسخرية لمحتها من لهجته المتعالية :
-هيه .. وايش بتقول ؟ بدّك تخطب من العربان بناتهم ، البدو ما بيزوجوا الفلاحين !!.
-أنا ما أنى جاى من الوادى ، ولا من الصعيد ، أنا عرايشى ، سيناوى ، من عيلة تعرفونها ، ووالدى موظف لا عمره مسك فاس ولا حرث أرض ، لم يجعلنى أكمل ، وأردف :
-اسمع يا …
– اسمى مصطفى ، تخرجت فى الجامعة وأعمل طبيباً فى مستشفى رفح المركزى .
-حتى لو كنت وزيراً يامصطفى ، عاداتنا ان البنت محجوزة لابن عمها ، ولا يمكن لأحد منا أن يتعداه ، نحن لا نزوج أبناء القبائل الأخرى ، فما بالك وأنت فلاّح – أى تسكن المدينة – طباعكم غير طباعنا ، واللى بيخرج عن قانون البادية بيصير هامل ، ويعيّره البدو بأنه ما لقى حد من القبيلة يتزوج بنته ، فكيف لو جوزها لغريب !! .
-قد تندهش من كلامى يادكتور ، فأنا تخرجت فى كلية الهندسة ، وأرفض تقاليدهم – التى تنافى الشرع – لكن لما قلت كده ، هدّوا الدنيا فوق راسى ، فلزمت الصمت الى الأبد .
-لكن التعليم يغير العادات البالية .
-ما كل الناس هنا متعلمين حتى يفهموا كلامنا .
سررت من كلامه لكن يبدو أن فى الأفق ضباباً لا ينقشع ، حينما علا صوت أحد القادمين :
يا منصور .
أهلين أبو يوسف .. اتفضل ، أعرفك بالضيف .. الدكتور مصطفى من العريش .
امتقع لون الرجل ثم صاح بغضب :
ايه ، وايش لونك . هو انت مصطفى اللى جاى يتزوج بنت عمى؟! .
بهتت من قوله وأجبت :
لقد جئت من الباب يارجل ، أطلبها على سنة الله ورسوله .
-مش قال لك أبوها ، وأنا بكرر لك : ماعندنا بنات للزواج ، ولما علمت جيت أبوها ، واتفقت معاه ، هاخدها فوق ” مرتى ” ، أم يوسف .
لم أتمالك نفسى وأردفت :
فى أى شرع هذا يارجل ؟!.
-فى شرع العرب ، واياك تهوّب مرّة تانية هنا ، هادا اللى ناقص ، جاى نعطيك لحمنا ودمنا ، يافضيحة العرب فينا لو نزوجها لك !! . …. تدخل منصور فى الحوار بغضب :
وايش بتقول ياسالم ؟ هادا ضيفى ، اقعد محترم ، ” المقاعد ملازم ” ،وانت ما احترمت حرمة بيتى ، الضيف عندنا فوق الراس والعين ، ولا أنت جاى تطرد ضيفى من بيتى ، والله لولا القرابة اللى بيننا لقعدّك للحقّ ..
ايش بتقول ؟ بتزعق فىّ علشان فلاح ..
الفلاّح هادا متعلم ، وجاى يريد سنة الله ونبيه ، واحنا بعمايلنا بنخالف شرع الله بالتقاليد .. يا راجل انت متجوز ، وعندك “حرمة ” ، و ” طنياّت ” ، أم يوسف ربنا يخليها الك ، ست بقبيلة ، اترك البنت للى رايدها ، ورايداه .
ايش بتقول يامنصور ، يا متعلّم ، والله الظاهر ان العلام خرّب راسك ، وخرّجك من أهلك وناسك وتقاليدهم .
عادات وتقاليد بالية ، شينة ، قل لى يارجل : وايش فيه الرّجال يتعيب؟ .. وهى متعلمة زيه ، هيريحها ، ويدفع مهرها وزيادة ، وما يكلّف أحد شىّ .
انت راجل خرفان يامنصور ،يامتنور ، أنا قايم من عندك وبعدين بيصير بيننا كلام كبير .
اعتذرت لمنصورالشهم ، وودت الانصراف ، فودعنى مقسماً أن يساعدنى حتى النهاية
سرت فى طريق العودة منكسر الخاطر ،ركبت السيارة وتدافعت الصور أمامى ، وحال سلمى الذى بات مهدداً بسيي القبلية المتعصبة 00 وعدت الى منزلى فى مدينة العريش
دخلت المنزل ، تهللت أختى الصغيرة لقدومى ، أزحتها جانباً ، لزمت الصمت .. دعتنى أمى للطعام ، رفضت وتوجهت الى حجرتى ، ارتميت فوق السرير ، وتدافعت دوامات الصحراء داخل عقلى الصغير .
توالت الساعات ، ثمّ طرق شديد بالباب ، لم أهتم ، زاد الطرق لكننى كنت فى عالم مهيب .
أسرعت والدتى لتفتح ، فتاة غريبة مكممة يبدو عليها الهلع ، أنفاسها متقطعة ، تلهث من الجرى ، انها سلمى .
أسرعت اليها ، طوّقتها بين ذراعىّ ، ربتّت على كتفها بحنان ، انتابتها موجة من البكاء ، ظلت تبكى ، مسحت دموعها بيدى .. لقد شردت من تقاليد القبيلة ، وطلبت منه أن يتزوجها فوراً ، وليكن ما يكون ..
تهلل وجه منصور ، الا أن والده الذى كان يرقب الموقف وقف معترضاً ، وأردف بغضب :
الى أين يادكتور مصطفى ؟! .
سأحضر المأذون .
البنت لازم ترجع لأهلها .
امتقع لون مصطفى ، لكن ملامح الوالد الحادة لم تدع له مجالاً للكلام .
ستبيت البنت عندنا ، وفى الصباح سأصطحبها الى هناك ، الى بيت الشيخ حسان ، صديقى ، وربنا يجيب اللى فيه الخير .
كعادة البدو ، يعرف والد مصطفى : ” الدّخالة ” ، وهو أن تقيم الفتاة فى بيت أحد الرجال لتستجير به ، وكعادة البدو يمنع التعدى على صاحب الدار المجير حتى تحل
المشكلة لدى القاضى العرفى ، أو على أيدى أقاربها ، والشيخ حسان رجل معروف بالشهامة والعدل ، وهو شيخ القبيلة ، وشريكه كذلك فى أرض الخوخ والزيتون هناك .
فى الصباح استقبلهم الشيخ حسان بحفاوة ،ولما علم بالأمر أرسل لوالد سلمى من يخبره بأن ابنته عنده ، وجاء أبوها ومعه بعض أبناء عمها ، وكان من بينهم أبويوسف ، وفى المجلس قص عليهم الشيخ حسان وما كان من رفض والد مصطفى فى تزويجهما الا بعد العودة لأبيها ، وعائلتها ، ثم أردف :
الراجل ياحاج سويلم من عيلة معروفة ، وشريكنا فى الزراعة ، والبنت متعلمة زيه ،ورايدها زى ما قال ربنا ، وانت شهم وكبير ، وأنا أستحلفك بالله لا تكسر نفس البنت والولد ، هما راعوا الأصول ، وجايينك ، واحنا زى ما بتعرف ، ما بنرد المعروف الا بزيه ،ولا انت ليك شور تانى ، قولى ياكبير الربع .
سكت الحاج سويلم وانفرجت أساريره لهذا الاطراء ، وكأنه خرج من المأزق والحرج الكبير، لكن ابن عمها أبو يوسف تدخّل بغضب :
ياشيخ حسان : انت بتعرف الأصول ،وأنا هكتب عليها اليوم ، وأتزوجها قبل ما تجيب النا العار كلنا ، ولا أطخها ونستريح منها !!. .عندئذ تحدث والد سلمى وقد انتخى لابن أخيه الذى أذكى داخله روح العصبية من جديد :
وايش يقولوا عنا العربان ، جوز سويلم بنته لفلاح ؟!.
رد الشيخ حسان : البنت متعلمة ، ودكتورة زيه، والتعليم بيغير الطبايع والعادات ، هقولك ومش هخبّى عنكم الخبر ، أمس جانى مهندس لبنتى ، مصرى من الوادى ، وأنا وافقت ، وكلكم معزومين يوم الخميس عندى .
أسقط فى يد والد سلمى ، ووهنت حجته ، نظر الى ابنته التى انكشمت من الخوف والدموع والبكاء ، رق قلب الأب أخيراً ، وصاح كأنه يوجه الكلام الى أبى يوسف :
أنا موافق ياشيخ .
صحيح والله .
أى والله يا ابن عمى ، زوّج الدكتورة للدكتور .. وانت يا أبو يوسف بيكفيك واحدة ، تريد التانية ، احنا بنستأذنك وبنرضيك ، ” رضاوة ابن العم لازمة ” وما بنقدر على غير رضاك ، ولا انت عايز تتزوج واحدة بتريد غيرك ؟!.
انطلق كلام والد سلمى كالسهام فى قلب أبو يوسف ، بينما كان قلب مصطفى وسلمى يكاد يطير فرحاً عندما سمعاً كلام والدها وهو يردف :
غداً نكتب الكتاب ، أنا ما أنى عايز كلام كتير من حد ، يلا ياسلمى افرحى .. مبروك .
خرجت سلمى ، قبلت يديه ، ومشت بجواره فى زهو ، وهى تشير مودعة لمصطفى .
تزوجت سلمى من مصطفى ،على أنغام السامر وسط الصحراء الممتدة ، أمسك بيديها وظلا يجريان مجتازين سياج القبيلة الى العالم ، حيث الحب هناك قد نسج لهما قصراً منيفاً أضاء ظلام البادية الممتد . ” تمت “






