مشروع صغير برائحة الوطن: فلسطينيون يصنعون الأمل في أحياء القاهرة
زعتر ودقة وكحك... تُصنع بأيدٍ غزاوية وتحمل رائحة فلسطين

كتبت: رانيا سمير
في زقاق هادئ يختبئ خلف صخب القاهرة، يقف معتصم، فتى غزّي في الخامسة عشرة من عمره، يحمل بين يديه ما تبقى من وطنٍ مزقته الحرب. ليس مجرد بائع للزعتر والكعك الفلسطيني، بل حافظٌ لذاكرة الطفولة التي سُرقت تحت القصف، وناقلٌ لنكهة الأرض التي فُرض عليه مغادرتها. من بين جراح النزوح ومرارة الفقد، وُلد مشروعه الصغير “المعتصم بالله للمنتجات الفلسطينية”، لا كمصدر رزق فحسب، بل كحكاية مقاومة لا تُروى بالسلاح، بل بالخبز والدقة وزيت الزيتون.
لكن قبل أن يُصبح بائعا للزعتر والدقة والكعك، كان معتصم في شمال غزة، وتحديدا في منطقة تل الهوى، حيث عاش وعائلته ليالي طويلة من الرعب والخوف، ونجا من الموت أكثر من مرة بعد أن قُصف منزله، ودُمرت منطقته بالكامل. يروي معتصم كأن كل كلمة تنكأ جرحا “نزحنا أكثر من مرة، وعشنا وسط قلة في الغذاء ومياه الشرب”.
من سوبرماركت في غزة إلى مشروع منزلي في القاهرة
لم يكن المشروع الحالي استمرارا لنشاط تجاري سابق، إذ كان والده يملك سوبرماركت لبيع المواد الغذائية في غزة، قبل أن تقلب الحرب كل شيء. ومع الوصول إلى مصر أثناء الحرب، ولدت فكرة المشروع كوسيلة بسيطة لتأمين الحد الأدنى من احتياجات العائلة المادية، بعد أن وجدوا أنفسهم مضطرين للعيش مع جدته وأخواله، دون القدرة على توفير مسكن مستقل أو حتى التعليم لمعتصم.
منتجات من القلب… واليد
يعتمد المشروع على بيع منتجات فلسطينية خالصة، بعضها يصنعه معتـصم ووالده يدويا، مثل الزعتر والدقة والفلفل الأحمر، وبعضها الآخر يُشترى من تجار فلسطينيين بالجملة، لتُعرض وتُباع لاحقا عبر صفحة أنشائها تحمل اسم “المعتصم بالله للمنتجات الفلسطنية” . يضيف معتصم وقد بدا عليه الحزن “كانت والدتي تصنع الكحك والمعمول الفلسطيني، لكن أُصيبت مؤخرا بانزلاق غضروفي في الرقبة، فتوقفت”.
هوية لا تُنسى
يؤمن معتـصم ووالده أن هذه المنتجات ليست فقط وسيلة للعيش، بل رسالة ثقافية وتراثية تحافظ على الهوية الفلسطينية في الغربة. “نركز على الزعتر، والدقة، والفلفل الأحمر، وزيت الزيتون… كلها نكهات من الوطن”.
لكن رغم جمال الفكرة، إلا أن التحديات كثيرة. من أبرزها عدم وجود ميزانية كافية للتسويق أو الإعلانات، ما يجعلهم يعتمدون على البيع المباشر داخل الجالية الفلسطينية، والتي تُشكّل الغالبية العظمى من الزبائن. ورغم محاولاتهم للمشاركة في بازار “مدينتي”، إلا أن ارتفاع تكلفة الاشتراك منعهم. شاركوا بدلًا من ذلك في فعاليات أكثر تواضعًا مثل: ” بازار زهراء المعادي – مول هب 50، ونادي سماش، والحديقة الدولية في مدينة نصر”.
حلم معتصم
يحلم معتـصم بأن يمتلك هو ووالده محلا حقيقيا لعرض منتجاتهم، بدلا من الاكتفاء بالمنصات الإلكترونية، كما يطمحون لتوسيع النشاط داخل مصر. أما المواد الخام، فيحصلون على بعضها من العريش، فيما تبقى الذكريات والحنين يأتون من غزة، مع كل عبوة دقة وزيت.
“مشروعنا مش بس تجارة… هو حياة كاملة بنحاول نعيشها رغم كل شيء”، يقولها معتـصم وهو يُرتب عبوات المعمول برفق، وكأن كل قطعة تحمل فيها نبض غزة التي تركها، دون أن يغادرها.
بالرغم من أن الطريق أمامهم طويل، والتحديات كثيرة، لكن معتصم وعائلته يؤمنون بأنهم قادرون على المضي قدما. في قلب كل منتج يعرضونه، هناك قصة، وهناك مقاومة، وهناك شجاعة. إنهم لا يقدمون مجرد منتجات غذائية، بل يقدمون جزءاً من تاريخهم، من نضالهم، ومن أحلامهم التي لا تنكسر.
إنهم ليسوا فقط يحاربون من أجل العيش، بل يحاربون للحفاظ على إرثهم الثقافي والفلسطيني، ويرون أن هذا المشروع هو طريقهم لإبقاء فلسطين حية في قلوب الناس، مهما كانت المسافات أو الظروف.