ثقافة و فنمقالات

تجريد الصورة الصوفية

 

 

كتب / حاتم عبدالهادي السيد

يحيلنا الشاعر المغاير الجميل / أحمد عبدالحميد في قصيدته الفريدة: ” حيث لا سماء تخصني” – منذ البداية – إلي فلسفة ذاتية خاصة، صوفية، وتجريدية، عدمية وكونية، تستقطب الوجود والعالم، وتستنطق الذات الموجوعة عبر دهاليز الحياة، فنراه يُطبطب علي الحروف، يهدهدها من رقدتها لتستيقظ بأمر الحب، والجمال، ولتنزع غُلالتها لتعيد معه اكتشاف الحياة والعالم والكون، والوجود السرمدي العظيم.
هو فرد –إذن– في معادلة الوجود الممتدة، يصنع المعجزة/ القصيدة، ويهيأ لها عرشًا صوفيًا عبر تصوف ذاتيٍّ، يفلسفه، ويُعيد تكوين عجينته الكونية بآهاته التي يُهرقها علي الأوراق البيضاء فيحيلها زرقاء داكنة، تنزع إلي السواد، لكنها تتبرعم بأمل لا مُحَدٍّ، وتنبت برعمها الطريِّ في بؤبؤ الروح المتعطشة للحب وللمرأة والحنين، ويقف وحيدًا ليتأملها وحده، فسبحان ما صنعت يداه، وما صنع شيئَا هو كذلك، بل كان يتأمل الوجود من بعيدٍ، زاهدًا في مساءاتٍ تمر، عبر غائبة لا تجيء،” حيث لا سماء تخصني”/تخصنا/تخص الوجود والكون، وهو شاهد علي الحياة يتشوَّفها ويراها، وربما لا تراه أو تكثرث لوجوده – كما يظن –لكنها مشغولة معه– طوال الوقت–فغدت الحياة هي التي تدور في فلكه، فمن يزهد في الحياة تَتلبَّسَهُ لِتُعيده إلي سجنها، ولا تتركه يتمتع بجمال السباحة في أفق اللا ميتافيزيقا، فقد تجرد من أسئلتها، وآمالها وآلامها، وظل يرقبها من شرفته المضيئة بالحب الجميل .
انه شاعر المعنى الذي ابتني بيتًا ليحيا، فإذ به السجن بعينه، فيتناص مع سعدي يوسف الشاعر البهيَّ، لا ليعيد تأسيس المفارقة، ولكنه ليكمل مشوار سعدي يوسف، في قصيدته التي استهل بها القصيدة لتحدث مفارقات التساؤل الذاتي-منذ اللحظة الأولي- وليكمل الرد عليه، فسعدي يوسف يقول:
“قد نبتني بيتاً،
فَنُسجنُ فيه،
ما أبهى الحياة !”.
وشاعرنا/ أحمد عبدالحميد يقول في نهاية القصيدة:
سيأتي شخصٌ ليقولَ
– كلمةً طيبة –
لكى يكون المرء صالحًا ينبغي ألا يفقدها أبداً .
لكن التعاسةَ تكمن
في أن لا نقول للحياة شكراً.
وكلاهما–كما أرى– يغرفان من بئر واحدة، ولكن باختلاف المفارقة، فكلاهما يتهكم ويسخر، ويعتب، لكن أين العُتبى، ولمن العُتبى؟ والحياة تمضي بالغبش، وبزبد الأشياء الطافية فوق السطح، بينما يبحث مع سعدي يوسف عن الجوهر، عن المعنى العميق خلف ظاهر النص الذي نتأوله لنخرج جوهر المعاني المُتجذرة داخله، والتي تمثل نقطة البدء والتكوين، أو “بيضة الوجود الجميلة “، أو النواة، التي تتأسس فوقها عجلة الوجود الكوني السوريالية الباذخة، والمضيئة، والمعتمة في ذات الوقت أيضًا !! .
يبدأ/أحمد عبدالحميد قصيدته بحكاية سردية: “وقالت لي لدينا حياة”، وهنا تكفي الشاعر هذه الجملة، ليظل يعيش في كنفها، وكأنه يستعيد شريط ذكريات لحبيبة مضت، أو غابت، أو غُيِّبَت، لكنه يكتفي بالجملة، ليبدأ سردًا سينوغرافيًا استرجاعيًا لفلاش العمر، الذي انسحب منه الضوء فجأة، وكأن القصيدة هي سرد يفسر العنوان السيموطيقي الدال، فلم تعد تخصه السماء، ولا الأرض والأشياء، واكتفي بقولها :
وقالت لي – :
لدينا حياةٌ
أَلا يحملُ هذا معنىً كافياً
في عمريَ هذا لا أستطيعُ الاختباءَ
وحين رأيتك …
لاحظت أنك لست وجيهاً …
أو مرغوباً …
الشَّعْرُ أسود ، ربما
العينان واعدتان ، ربما
ولو لم أتأذ…
لوددت النزول على ركبتيّ …
هل هي مُخَيَّلتي
أم أنّ الوقت قد تأخر وعلينا
الذهاب إلى مكان ما …
؟
لمَ لَا
؛
العمر ليس كافياً
والمرء مَدينٌ لنفسه بمحاولة ما …
المال ليس يهمُّ
الجنس ليس يهم
علينا أن نكون لطفاء ، فحسب .
إنه يسرد ذاته، ويُهريق روحه علي سُجادة الحياة الميتافيزيقية، ليعبر سماواتٍ غير مُحدةٍ، وأراضينَ لا فائدة منها، فهو فقط يحيا بكلماتها إلي الأبد. فلا شيء عاد مهمًا،فقط يرشدنا إلى أن نكون لطفاء، فلا المال أصبح مهمًا، ولا الجنس، فقط الائتناس بقرب الحبيبة بدلًا من العزلة، فهو يريد أن يكلم الوجود والعالم والأشياء، أو أي شخص ليشعره أنه حيٌّ، كما أنه يريد هذا الشخص ليعترف له بأنه وقع في الحب، وكأنه يعيد – عبر التناص التأويلي – قول الشاعر العربي القديم :
ألا أيها النُّوامُ ويحكم هبوا
أسائلكم : هل يقتل الرجل الحب .
فقد أيقظ الناس وكل النوَّام ليسألهم عن الحب، وهل يقتل الحب الرجل ،غير مبالٍ بأنه قًضَّ مضاجعهم، فالحب أعمي، ومن يحب لا يرى سوى طيف المحبوب، يقول :
من الجيد أنْ يكون لديك شخصٌ لتكلمه
حتى لو كان كلُّ الحديث – محضُ هراء –
بدون ذكر الأشياء التي تجعلُنا نرتجفُ
هل تعرف شيئاً عن مواعيد الموت .؟
أضافتْ في همس –
: أجد نفسي مجبرةً على اعتراف بعيد الاحتمال ، هو أنني وقعت في الحبِّ ؛
ما يَمِيزُ حياتي أنّها لا تنتمي إليّ .
حياتي بأكملها سُلِبَتْ مني .
نصفُ حياتي …
وليس لديّ شئٌ ليعبر عنه .
سيكون الأمر عميقاً، ومليئاً بالحكمة،
لو أن عقارب الساعة ترجع إلى الوراء.
– لماذا توقفت النساءُ عن أن تكون نساءَ ؟؟؟
هذا هو الأمر الذي لا نتحدث عنه.
إنه غدًا غريبًا عن العالم، يتذكر ويتمني عودة عقارب الساعة إلي الوراء، ليرى بنظارة الماضي حاضره، كما يتساءل عبر الصورة التجريدية عن حال النسوة الذي تَبَدَّل، فلسن هن نساء الأمس كذلك !! .
وشاعرنا ينزع إلي استلاب وتجريد الصور ليحيلنا إلي سيريالية المعني الرامز، عبر الاختزال، والبوح الصامت، فلم يعد يكترث لأيِّ شيء سوي أنه موجود وحسب، يعيش علي الحافة، وينتظر قدوم الحب من جديد، لذا نرى فلسفة تطغي عبر شاعرية مخبوءة، فهو يبحث عن اليقين، ولا برهان هناك، ويبحث عن الحب ولا حب، وعن المرأة التي غابت خلف ضباب الغيوم والصمت، كما أنه يجسد المشهد ككتلة ، أو كصخرة جردتها العواصف، فغدت تقف شاهدة علي الحياة، لتخرج حكمة الشاعر وفلسفته الصوفية السوريالية المندغمة مع ذاتٍ مُحبة عاشقة، تريد غبش الصباح لتسابق العصافير، لكنها تصطدم بصخرة الواقع فتقف لترسم لنا مشاهد قيامة الذات والأبدية، عبر سرمد روحه الجميلة، يقول :
كثيراً ؛ نحن لا نعرف كيف نعيش أبسط الأشياء .!!
مياهٌ
تسَّاقطُ
فوق
المياهِ
السيرُ على الطريق الصحيح يعني : مزيداً مِن الاستغناءِ ولكنّك جئت كلّ هذا الطريق منْ أجل شئٍ ما…
ثم يبدأ الشاعر رحلة التساؤلات الكبرى، عن الحلم والحقيقة، عن الوقت والغرفة التي بها سرير الطهر للحب العفيف البريء الذي لم يتلوث ، ولم تلوثه رغبة عاطفية، فهو حُبٌّ نوراني سامق، وعفة تصل إلي حد الدهشة كذلك، لكنها مفارقات الحقيقة ، ودهشة البراءة، وعفة الحب الخالص، يقول :
هَلْ تؤمنُ بالمصادفات . ؟
حَلُمتُ …
وقدْ مرّ وقتٌ …
وها نحن …
غرفةٌ…
وسريرٌّ …
ولم يبق عندك من الأصدقاء غيري
اغوني …
اغوني …
هذا هو ما نسيناهُ …
هذا هو الشئُ الذي يهمُّ…
أعرفُ أنها مفارقةٌ
لكنْ لابدَّ أنْ تَفْهَمها
أن يكون الحبُّ بريئاً
أمرٌ سفيهٌ جداً .
ما أقوله حقيقيٌّ وقاسٍ .
أنا لا أؤمنٌ بالمعجزات .
وشاعرنا يؤمن بالبعث والموت، كما يؤمن بوجوديته عبر الحياة القاسية، لذا يحلم ويعيش الحلم كي لا يموت، أو هو يصرخ في براري العالم بحثًا عن الحقيقة، حقيقة الفطرة الأولي: الخلق، الوجود والعدم، الصمت والسكون، الجرح والبراءة، النور والعتمة، الحقيقة والخيال، والموت والحياة والبعث من جديد.
وهو عبر الثنائيات، نراه يقف في منطقة الشاهد الأخير علي الحياة والوجود، يمد يده للعالم، ويخرج من الفوضى إلى الذات، إلي عبق الشَّوفِ، عبر براح الكلمات، واقتصاديات اللغة المائزة، والمعني الذي يدلل إلي مرموزاتٍ سيموطيقية، ودوال مغبشة بحكم وأمثال، أو هي تجربة حياة بكامل تفاصيلها الوجودية، والذاتية، ومفارقاتها العبثية، والحقيقية كذلك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى