نبش القبور في خان يونس: حين لا ينجو الموتى من الحرب

كتبت: رانيا سمير
في فجر ثقيل على أهالي الجنوب الفلسطيني، لم توقظهم الصواريخ هذه المرة، بل استيقظوا على جرافات الاحتلال وهي تشقّ طريقها داخل المقبرة التركية غرب محافظة خان يونس، لتُخرج الموتى من صمتهم، وتعيد إليهم أهوال الحرب التي لم ينجُ منها حتى الأموات.
الحدث، الذي وثقته مشاهد مصورة وتصدّر منصات التواصل الاجتماعي، تجاوز حدود الفعل العسكري، ليلامس أبشع ما يمكن أن يرتكبه احتلال بحق شعب أعزل: نبش القبور وسرقة جثامين الشهداء والموتى، في انتهاك صارخ لا تقبله عقيدة، ولا تسوّغه شريعة، ولا يبرره عرف أو قانون.
“لا يكتفون بقتل الأحياء، بل يلاحقون الأموات”
هكذا وصف المكتب الإعلامي الحكومي في غزة الجريمة التي ارتُكبت فجر الخميس، حين اقتحمت قوات الاحتلال المقبرة الواقعة في منطقة المواصي مستخدمة الدبابات والجرافات، وشرعت في تجريف القبور ونبشها، في سلوك قالت وزارة الأوقاف الفلسطينية إنه “يستحضر أبشع صور الوحشية التي عرفتها الحروب”.
البيان الرسمي أشار إلى أن الجريمة لم تكن معزولة، بل جاءت متزامنة مع تجريف وتدمير مخيمات النازحين المقامة في محيط المقبرة، وهي المخيمات التي لجأت إليها مئات العائلات بعد تهجيرهم من شمال القطاع، لتجد نفسها مشردة من جديد، دون خيام، ودون مأوى، ودون قبور لأحبّتها.
جريمة مزدوجة: القبور والمخيمات معا
المشهد كان أقرب إلى كابوس ممتد. لم يقتصر على انتهاك حرمة الموتى، بل طال الأحياء الذين احتموا بمحيط المقبرة بعد أن ضاقت بهم الخيارات، فوجدوا أنفسهم بين جرافات تمزق أرض القبور، ودبابات تدوس خيامهم، وكأن الاحتلال أراد أن يقول إن لا ملاذ آمن في غزة، لا للأحياء ولا للموتى.
وزارة الأوقاف الفلسطينية وصفت الجريمة بأنها “مروعة”، مؤكدة أن نبش القبور وسرقة الجثامين تمثل “تجاوزًا خطيرًا لكل القيم الدينية والإنسانية”، ودعت المجتمع الدولي إلى تحرك عاجل لوقف هذه الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها، معتبرة أن ما حدث “يمثل نمطًا ممنهجًا من الانتهاكات التي تطال الإنسان الفلسطيني في حياته وبعد موته”.
مقابر بلا أسماء… وذاكرة مهددة بالمحو
ما يحدث في غزة ليس فقط تدميرًا للمباني، بل محوًا لذاكرة كاملة. فمنذ بدء العدوان الإسرائيلي، تشير وزارة الأوقاف إلى أن نحو 40 مقبرة تم تدميرها كليًا أو جزئيًا من أصل 60 مقبرة منتشرة في القطاع، وهو رقم يكشف أن الاستهداف لا يأتي بالصدفة، بل وفق منهجية ترى في كل ما هو فلسطيني خطرًا يجب إزالته، حتى لو كان قبرًا صامتًا تحت التراب.
أهالي خان يونس، الذين كانوا يزورون قبور أبنائهم كل جمعة، ويتركون الزهور والماء والآيات، استيقظوا على صور القبور المقلوبة، على نعوش ممزقة، وعظام مبعثرة، وذكريات مشردة مثلهم، في مشهد يعكس ما قاله أحد الناجين: “سرقوا شهداءنا منّا مرة أخرى، بعد أن سرقوا حياتهم”.
في ختام بيانها، طالبت وزارة الأوقاف بفتح تحقيق دولي عاجل، ودعت المؤسسات الحقوقية والقانونية إلى توثيق الجريمة ومحاسبة الاحتلال على ما اقترفه من “انتهاك للكرامة الإنسانية”، مؤكدة أن احترام جثامين الموتى هو مبدأ لا يُسقطه النزاع ولا الحرب، بل يُعدّ معيارًا أساسيًا لقياس تحضّر المجتمعات.
كان الرد الشعبي على الجريمة عارمًا. إذ اجتاحت صور المقبرة مواقع التواصل الاجتماعي، وعبّر الآلاف من الفلسطينيين والعرب عن غضبهم وذهولهم، معتبرين أن ما حدث “يحمل بصمات جرائم ضد الإنسانية”، فيما وصف ناشطون المشهد بأنه “الذروة الأخلاقية لانهيار الاحتلال”، مؤكدين أن هذا النبش لن يُسقط الكرامة، بل يكشف قبح الفاعل.






