مقالات

سلسلة مقالات المؤسسة العسكرية المصرية بين الحضارة والإبداع 

 

الأستاذ الدكتور/ أيمن وزيري – أستاذ الآثار والحضارة المصرية ورئيس قسم الآثار المصرية بكلية الآثار-جامعة الفيوم ونائب رئيس إتحاد الأثريين المصريين والمُمثِّل العام لمؤسسي الإتحاد إقليمياً ودولياً يكتب:

حينما أخطأ المؤرخون والرحالة في فهم حقيقة الجيش المصري!

لم يع بعض المؤرخين والرحالة القدامى والمحدثين بالتبعية فهم حقيقة شخصية المصري القديم وميله للسلم، كما أساءوا فهم حقيقة وضع الجيش المصري القديم في العالم القديم؛ حيث فسروا الميل للسلم والتحضر في معاملة الأسرى والعمل في بناء الدولة ومشروعات التنمية على أنه ضعف وعدم قدرة على المواجهة، ومن الواضح جلياً أن هؤلاء الذين أساءوا فهم حقيقة المؤسسة العسكرية لم يتعلموا ولم يفهموا الكثير والكثير من أحداث التاريخ المصري القديم التى تدل بوضوح على أن المصري القديم كان قوياً في سلمه وشديداً في حربه، بل وكان أيضاً مُتحضراً فى معاملة أسراه، ولقد ظلت المؤسسة العسكرية المصرية القديمة لفترة طويلة تبنى وتؤسس كيان الدولة المصرية في الداخل، وفي البداية ما كان الجيش المصري يلجأ للحرب إلا دفاعاً عن النفس، لكنه أدرك أن هناك من يسعى لتهديد أمنه واستقراره فخرج ليذود عن أرضه وعرضه.

ويُمكن القول أن التقييم الموضوعي للجيوش لا يتم فقط من خلال إنجازاتها العسكرية وتسليحها وخططها، ولكنه يتم كذلك من خلال منهجها الأخلاقي الذي تتعامل به مع أعدائها أثناء المعارك. وإن الدارس للحضارة المصرية بوجهٍ عامٍ، والجيش المصرى بوجهٍ خاصٍ، سيُلاحظ جلياً أن هناك تقاليد وأعراف ومباديء استقر عليها الجيش المصرى وجعلها منهجاً ومنهاجاً له في حربه وكذلك في سلمه، ولقد جاء هذا المنهج مُعبراً عن أصالة الإنسان المصري، ودالاً على مدى تمسكه بالمبادئ والأخلاقيات والمُثل العليا حتى وهو يتعامل مع الذين يسعون لتهديد أمن بلاده.

ولقد كان الجيش المصرى يقاتل بضراوة دفاعاً عن أرضه وعرضه، كما كان يتعامل بكل التحضُر عندما كان الأمر يتعلق بالمدنيين أو بالمُنشآت مدنية، كما كان مدركاً أن قوته ليست فى عسكريته وشدة بأسه فقط، بل في سلوكه خارج إطار الأعمال الحربية أو العسكرية.

وعلى سبيل المثال – لا الحصر- فتُدلل النصوص المصرية القديمة خلال عصر الأسرة السادسة أنه عندما أرسل الملك “ببي الأول” حملة عسكرية والتي ربما كانت إلى فلسطين بقيادة “وني” الذى سجل على جدران مقبرته فى “أبيدوس” أخبار هذه الحملة؛ حيث يذكر: ” لقد حارب جلالته سكان الرمال الآسيويين، وقد حشد جيشاً كان مؤلفاً من عشرات الآلاف من الجنود”. ويستطرد النص في التعبير عن السلوك المُتحضر للجيش المصري، فيذكر: “لم يتشاجر مع أحد من المدنيين، ولم ينهب أحد منهم عجينة الخبز من المتجولين، ولم يسلب أحد منهم خبز أية مدينة مُسالمة”. وهكذا كان تعامل الجنود المصريين مع المدنيين من الأعداء، أما مع العسكريين من الأعداء فتذكر انشودة النصر الخاصة بتلك الحملة: ” لقد قُتل عشرات الآلاف من الجند، وعاد الجيش بالكثير من الجنود الأسرى والأسلاب”.

وإذا ما انتقلنا إلى عهد الملك “تحتمس الثالث” وهو صاحب الباع الطويل في العسكرية المصرية؛ حيث وصل بحدود الامبراطورية المصرية إلى ما لم يصل إليه أحد من قبله من الملوك، وذلك بعد أن حقق إنتصارات باهرة. وهذا التفوق العسكري لم يجعل “تحتمس الثالث” ورجاله من العسكريين يتخلوا عن الدور الحضاري للجيش المصري؛ فالجيش الذي حقق الإنتصارات هو نفسه الذى عبَّر عن حرصه على العلم والمعرفة، وذلك بتسجيل غرائب الموجودات في البلاد التي غزاها من طيور وحيوانات وأشجار ونباتات وخضروات وفواكه، والتي سجلها على جدران القاعة التى تُعرف بقاعة النباتات والحيوانات فى معبد “الكرنك”. ومن دلائل التعبير عن حرص الملك على دوام علاقة الألفة والمودة مع حكام البلاد الأجنبية وتأكيداً على ولائهم لمصر، فقد استقدم الملك “تحتمس الثالث” بعض أبناء أولئك الحكام الأجانب ليتعلموا في القصر الملكي في مصر، ولكى يشبوا على ولائهم لمصر، ولا مناص أنهم سيصبحون يوماً من الأيام حكاماً في بلادهم ومن ثَّم فتضمن مصر حسن الجوار معهم.

ويُمكن القول أن من بين أهم دلالات تحضُر الجيوش قديماً وحديثاً هو اسلوب التعامل مع أسرى الحرب؛ فالجيش القوي في حربه يكون قوياً في سلمه من خلال عدة جوانب، والتي من بينها ضبط النفس عند التعامل مع الأسرى العُزّل من السلاح، وهكذا كانت شيمة الجيش المصرى التي هى امتداد للطبيعة السمحة للإنسان المصري بوجهٍ عامٍ. وبنظرة فاحصة للنصوص العسكرية المُسجلة على جدران المعابد وعلى غيرها من الآثار، سيتضح جلياً أن من بين أهم المبادئ الراسخة في تقاليد الجيش المصري قديماً وكذلك حديثاً هو مبدأ حُسن معاملة الأسرى، وإن بدى الأسرى مُقيدين بالأربطة في بعض المناظر؛ فذلك كان بقصد التعبير عن كونهم أسرى.

وعلى امتداد فترة العسكرية المصرية خلال عصر الدولة الحديثة (عصر الامبراطورية) لم نسمع إلا عن حادثين أُسئ فيهما معاملة الأسرى وكان ذلك في عهد كل من الملكين “تحتمس الأول” و”آمنحتـﭖ الثاني” (من ملوك الأسرة الثامنة عشرة). إن ذكر هاتين الحادثتين لأبرز دليل على أن المصرى القديم كان أميناً في تسجيل ما كان يجرى فى حياته المدنية والعسكرية من أحداث، وكان بوسعه أن يتجاهل هاتين الحادثتين، لكن لأنهما يُمثلان خروجاً على التقاليد العسكرية والإنسانية المصرية المعمول بها والمُنتهجة كمنهاج قويم، فقد رأى ضرورة الإشارة إليهما، ربما تعبيراً عن رفض هذا المنهج فى التعامل مع الأسرى. وتتمثَّل دلالة حرص المصري على السلام في إدراكه الواضح على أنه بقدر ما كان الجيش أداة لردع العدو، فكان أيضاً في نفس الوقت بمثابة أداة لتحقيق السلام بين مصر وجيرانها، وتشهد على ذلك أحداث التاريخ المصرى القديم على ذلك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى