بعد إعلان نتائج المرحلة الأولى: هل هناك مأزق دستوري؟

بقلم/ سيد حسن الأسيوطي
الكاتب والسياسي – منسق ائتلاف “إحنا الشعب”
في البداية، كل الاحترام والتقدير لأعضاء الهيئة الوطنية للانتخابات الموقرة، تلك المؤسسة الدستورية التي تحمل على عاتقها أمانة صون إرادة الشعب وحماية المسار الديمقراطي في البلاد. غير أن الحرص على استقرار الدولة لا يتعارض أبدًا مع طرح الأسئلة المشروعة، بل هو من صميم واجب المواطنة الصادقة، لأن صمتنا أمام الغموض قد يفتح الباب أمام أزمات أخطر تمس الثقة في نزاهة العملية الانتخابية برمتها. ما نكتبه هنا ليس تشكيكًا ولا تجنيًا، بل تفنيد واجب وتساؤل مشروع هدفه الأول والأخير حماية الدولة والدستور وإرادة الشعب.
حين صدر قرار الهيئة ببطلان الانتخابات على مقاعد الفردي في 19 دائرة انتخابية موزعة على سبع محافظات، كان ذلك يعني عمليًا إبطال نتائج ما يزيد عن 2500 لجنة فرعية، تضم ما يقرب من مليوني صوت انتخابي، أي ما يقارب ربع أصوات الناخبين أو يزيد في المرحلة الأولى. وفي الوقت ذاته، أعلنت الهيئة فوز القائمة الوطنية المطلقة في المرحلة الأولى، بعدما تخطت نسبة الـ5% القانونية، مع استبعاد تلك الدوائر التسعة عشر من الحساب العام – أو هكذا يفهم الرأي العام في ظل غياب بيان تفصيلي واضح.
وهنا يبدأ السؤال الجوهري: هل تم احتساب أصوات الناخبين في الدوائر الـ19 ضمن مجموع الأصوات الصحيحة للقائمة؟ أم أن البطلان شملها بالكامل فتم استبعادها من الحسبة؟ إذا كانت الأصوات قد احتُسبت بالفعل لصالح القائمة، فكيف يمكن قانونًا استبعادها من الفردي واحتسابها في القائمة؟ وإذا كانت قد استُبعدت تمامًا، فهل كانت النسبة التي على أساسها أُعلن فوز القائمة دقيقة بعد حذف ما يقارب ربع أصوات المرحلة الأولى من الإجمالي العام؟ إننا أمام عوار قانوني مزدوج لا يمكن السكوت عنه أو تركه بلا إجابة حاسمة.
وتزداد خطورة هذا الموقف مع الحديث عن إعادة الانتخابات في الدوائر الـ19؛ إذ نجد أنفسنا أمام مأزق انتخابي لا يخلو من تعارض دستوري واضح. فإذا قدمت الهيئة للناخبين ورقة اقتراع للفردي فقط، بدعوى أن القائمة قد أعلنت فوزها بالفعل، فإن ذلك يعد انتقاصًا صريحًا من حق الناخب الدستوري في الإدلاء بصوته على النظامين (الفردي والقائمة) أسوةً بباقي المواطنين، وهو ما يمثل تمييزًا غير مبرر ومخالفة لمبدأ المساواة في الحقوق السياسية وعدم التمييز بين المواطنين. أما إذا قدمت الهيئة ورقتي اقتراع (فردي وقائمة) لاستكمال الحق الدستوري، فذلك يعني إعادة التصويت على نتيجة معلنة مسبقًا، وهو أمر يخالف مبدأ استقرار النتائج الانتخابية، ويمس بسلامة القرار الرسمي للهيئة نفسها، ويضعنا أمام حالة ارتباك دستوري وقانوني لا يليق بدولة تسعى لترسيخ دولة القانون والمؤسسات.
بهذا تصبح الهيئة أمام مأزق دستوري صريح: فإما أن تنتقص من حق المواطن، أو أن تعيد التصويت على قرار سبق إعلانه، وفي الحالتين نحن أمام خلل يستوجب مراجعة شاملة وجادة قبل المضي في أي خطوة تنفيذية.
ثم تأتي مسألة الأصوات الباطلة لتعمّق الأزمة أكثر؛ فإذا كانت أصوات الـ19 دائرة قد تم احتسابها ضمن إجمالي الأصوات العامة للقائمة، فهي أصوات باطلة بحكم بطلان العملية في تلك الدوائر، ولا يجوز قانونًا ولا منطقيًا أن تكون باطلة في جزء وصحيحة في جزء آخر. الصوت الانتخابي إما أن يكون صحيحًا أو باطلًا كوحدة واحدة، ولا يقبل التجزئة؛ فلا يمكن أن يُقال إن الصوت باطل في شق (الفردي) وصحيح في شق آخر (القائمة) ضمن عملية انتخابية واحدة شابها البطلان في ذات اللجنة، وذات اليوم، وذات الإجراءات. هذا التناقض وحده كفيل بفتح باب الطعون القضائية الواسعة، وربما يستدعي – إذا لم يُصحَّح الوضع – إعادة الانتخابات برمتها بحكم القضاء حمايةً لسلامة المبدأ الدستوري في المساواة والعدالة الانتخابية، وحفاظًا على هيبة مؤسسات الدولة ذاتها قبل أي اعتبار آخر.
إن خطورة هذا المأزق لا تقف عند حدود الهيئة الوطنية للانتخابات فقط، بل تمتد إلى مسؤولية البرلمان القادم وإلى دور القضاء الإداري والقضاء الدستوري. فالبرلمان الذي يتشكل على أرضية ملتبسة أو مطعون في نزاهة جزء معتبر من مدخلاته الانتخابية، سيكون برلمانًا مهددًا في شرعيته السياسية والأخلاقية، حتى وإن اكتملت أركانه الشكلية والقانونية. ومن جهة أخرى، فإن القضاء الإداري – وهو الحارس الطبيعي لمشروعية القرارات الإدارية – قد يجد نفسه أمام سيل من الطعون التي تطعن في سلامة الإجراءات، وفي تكافؤ الفرص بين الدوائر، وفي مصير أصوات ملايين الناخبين. كما أن المحكمة الدستورية العليا قد تُستدعى – عاجلًا أو آجلًا – للفصل في التعارض بين ما جرى عمليًا وبين المبادئ الدستورية المستقرة في المساواة، وعدم التمييز، وصون الحق السياسي للمواطن. إننا هنا لا نستدعي الصدام بين المؤسسات، بل ندق ناقوس تحذير مبكر يدعو إلى تصحيح المسار سياسيًا وإداريًا من الآن، حتى لا نُحمّل القضاء عبء معالجة أخطاء كان يمكن تداركها بقرار شجاع وحكيم من الهيئة الوطنية أو من المشرّع.
ليس الهدف من هذا التفنيد توجيه اتهام أو التشكيك في نزاهة الهيئة الوطنية، بل هي مطالبة وطنية صادقة بتوضيح رسمي ودقيق يزيل الغموض حول كيفية احتساب الأصوات في تلك الدوائر، وأثر استبعاد أو احتساب أصوات ما يقارب ربع الكتلة التصويتية للمرحلة الأولى على نتيجة القائمة، وآلية التعامل مع بطاقات الاقتراع في الإعادة بما يحفظ الحق الدستوري المتساوي لكل ناخب، دون تمييز بين دائرة وأخرى أو محافظة وأخرى. فالشعب المصري، الذي يثق في مؤسساته، يحتاج إلى شفافية كاملة كي لا تهتز ثقته في آلية التعبير عن إرادته، وكي لا تتحول صناديق الاقتراع من أداة لحماية الشرعية إلى باب مفتوح على مصراعيه للطعن في هذه الشرعية.
نقولها بكل وضوح وصدق: احترام القانون لا يتناقض مع حماية الدولة، بل هو حائط الصد الأول ضد الفوضى. وما نطرحه اليوم ليس خصومة مع الهيئة، بل نداء وطني شريف لتصويب المسار قبل أن تتسع الفجوة بين النصوص الدستورية والتطبيق العملي، وقبل أن نجد أنفسنا أمام مئات الطعون القضائية التي تضع الانتخابات كلها في مهب الريح. فمصر تستحق انتخابات تليق بعظمتها، وشعبها يستحق أن تُصان إرادته بلا لبس ولا غموض، والتاريخ لا يرحم من تجاهل جرس إنذار مبكر كان يمكن أن يمنع أزمة كبرى.
حفظ الله الوطن، وتحيا مصر بوحدتها دائمًا وأبدًا.





